الأدلة المعتبرة والمردودة في الإيمان والعقائد:
قال سماحة السيد المحدّث حسن السقاف في متن التوحيد والإيمان:
فصل
بيان الأدلة المعتبرة والمردودة في الإيمان والعقائد
وأدلة التوحيد أربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل (١):
فالكتاب: هو القرآن الكريم الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فصلت: ٤٢، وينبغي للعقل إذا انطلق للنظر في أي مسألة شرعية أن يذهب إلى القرآن أولاً قبل الذهاب إلى الحديث والسنة لأنه هو الأصل، وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا الفرقان : ٣٠. وفيه نصوص محكمة كما فيه نصوص متشابهة، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (٢)آل عمران : ٧.
ومعناها: أن الله تعالى حَكَمَ ونَصَّ على أن الآيات المحكمات - وهي التي لا تحتمل إلا معنى واحداً - هُنَّ الأصل والأساس والأم في فهم آيات الكتاب العزيز بل الدين بأسره، فلا يجوز فهم القرآن إلا بهن. وأن الزائغين هم الذين يجعلون المتشابه الأصل والأساس فيتمسكون به ولا يُرجعونه إلى المحكمات، فيضلون بذلك ويزيغون، فيكونون سبب الفتنة في الأمة لأنهم يؤولونه تأويلاً باطلاً فاسداً حسب أهوائهم، وأما معناه وتأويله الصحيح فلا يعلمه إلا الله تعالى لأنه كلامه سبحانه، ويعلمه كذلك الراسخون في العلم(٣) ، قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ آل عمران:۱۸، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ يوسف: ٦. ودعا النبي لابن عباس فقال: اللهم فقهه في الدين وعـ وعلمه التأويل) (٤) ، والراسخون في العلم يؤمنون بالمحكم والمتشابه قائلين: كل منهما من عند ربنا، وما يعرف ذلك إلا أصحاب العقول الصحيحة. فالقرآن يجب الإيمان بمحكمه ومتشابهه ويجب رد متشابهه إلى محكمه.
والنص المتشابه هو ما يحتمل أكثر من معنى في لغة العرب فيجب فهمه وتأويله حسب الآيات المحكمات لأنهن أم الكتاب، وأساس المحكمات في التوحيد قوله تعالى : لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ الإخلاص : ٣-٤، وقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الشورى: ۱۱ ، وقوله تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا طه: ۱۱۰، وقوله تعالى : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مريم: ٦٥ أي نظيراً أو مثلاً أو شبيها، وأمثالها. ومثال المتشابه: الآيات التي يوهم ظاهرها إثبات جارحة أو عضو الله تعالى أو مشابهة الله سبحانه بخلقه من وجه ما ، وطريقة بيان أن المتشابه غير مراد ظاهره استحضار نحو قوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَنَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ الزمر: ٥٦ ، أي في حق الله، ولا يراد من ذكر لفظ الجنب هنا ظاهره وهو إثبات عضو، وكذا استحضار مثل قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ الإسراء: ٢٤، وقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الحجر: ۸۸، لا يراد من هذا إثبات الجناح المعروف، وإنما يراد المعنى المجازي وهو العطف والرحمة والحنان. وكذلك قول الله تعالى في حق القرآن: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فصلت: ٤٢ ، لا يراد من ذلك إثبات يدين للقرآن ولا خلف، وإنما المراد مجاز ذلك، وهو أن الباطل والتحريف والتغيير غير داخل عليه، ومثله قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٥)سبأ: ٤٦، والعذاب ليس جسماً له يدان، وكذلك قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار أنهم قالوا: عَامِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ آل عمران: ۷۲، لا يراد إثبات وجه للنهار بمعنى العضو المعروف في البدن إذ النهار ليس له وجه بهذا المعنى ولا أيد ولا أعضاء لأنه ليس جسماً، وإنما المراد أول النهار، وبه يتبين أن هذا من مجاز اللغة في القرآن الكريم(٦).
وقد عَلَّمَنَا الله تعالى التأويل حيث أضاف النسيان إليه فقال: ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا الأعراف: ٥١، وقال سبحانه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ التوبة : ٦٧ ، ثم في موضع آخر نفى سبحانه أن يوصف بالنسيان فقال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) مريم: ٦٤، وقال: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابِ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ طه : ٥٢ .
وكذلك أيضاً قال سبحانه في آيات كثيرة : لِيَعْلَمَ اللهُ و لِنَعْلَمَ وظاهر هذه الآيات مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك الأمور ليكتسب هذا العلم، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى، والله جل جلاله يعلم الأمور قبل حصولها في الأزل وقبل خلق الخلق قطعاً، منها: قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ آل عمران: ١٤٢ ، وقوله تعالى : لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ المائدة: ٩٤، وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ الحديد:٢٥، وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ البقرة :١٤٣، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا الكهف : ١٢ ، وقوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ سبأ: ٢١. وفي المقابل قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ لقمان : ٣٤ ، وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ غافر :۱۹ ، وقال تعالى: ﴿غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.. الروم ٢ - ٤ ، وقال تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة : ٢٣٢، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ البقرة: ۲۲۰ ، وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ المائدة: ٩٧، وقال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ الأنعام: ٥٩. فالآيات الأولى مؤولة وهي من باب التنزل لعقول الخلق، وهي على الملاطفة في الخطاب لمن لا يعلم كقولك لمن ينكر ذَوْبَ الذَّهَبِ في النار وأنت تعلم أنه سيذوب: (فَلْنُلْقِهِ في النار لِنَعْلَمَ أَيَذُوبُ أم لا؟).
ومن أمثلة ذلك في الحديث: سبعة يظلهم الله في ظله ..». رواه البخاري (٦٦٠) ومسلم (١٠٣١) ولا يعني هذا أن لذات الله تعالى ظلاً حقيقياً لأنه ليس جسماً كائناً تحت الشمس وإنما المراد مجاز ذلك لأنه يكون حينئذ جسما والشمس فوقه كهذه المخلوقات ويكون ظله أو ظل عرشه قد أظل جزءاً من الأرض لا جميع الكون فيكون العرش أصغر من الأرض إن قالوا إن هذا هو ظل العرش أو ظل معبودهم ! لكن المراد بالحديث باللسان العربي سبعة في كنف الله تعالى ورحمته وحمايته فلا يخافون ولا يفزعون!
وباستقراء مسائل الاعتقاد تبين أن جميع مسائل أصول الدين ثبتت في القرآن الكريم، لأن القرآن يصل إلى جميع الناس فتقام عليهم الحجة خلافاً للحديث فإنه يصل إلى إنسان ولا يصل إلى آخر وقد حصل ذلك، وذلك تحقيقاً لقوله تعالى : مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ الأنعام: ۳۸ ، وقوله سبحانه: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يوسف: ۱۱۱.
——————————————————-
الحواشي السفلية :
(۱) قال الإمام الغزالي في "المستصفى" (٢ / ٣٥٠) : [ والمدارك المثمرة للأحكام كما فصلناها أربعة الكتاب والسنة، والإجماع، والعقل.
(۲) قال الإمام الغزالي في "المستصفى " (١٠٦/١): [مَسْأَلَةٌ فِي الْقُرْآنِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ. وَإِذَا لَمْ يَرِدْ تَوْقِيفٌ فِي بَيَانِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَيُنَاسِبُ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ، وَلَا يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُمْ : الْمُتَشَابِهُ هِيَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَالْمُحْكَمُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَلَا قَوْلُهُمْ: الْمُحْكَمُ مَا يَعْرِفُهُ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُتَشَابِهُ مَا يَنْفَرِدُ اللهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَلَا قَوْلُهُمْ الْمُحْكَمُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْمُتَشَابِهُ الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ، وَهَذَا أَبْعَدُ. بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُحْكَمَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْمَكْشُوفُ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ إِشْكَالٌ وَاحْتِمَالٌ وَالْمُتَشَابِهُ مَا تَعَارَضَ فِيهِ الاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا انْتَظَمَ وَتَرَتَّبَ تَرْتِيبًا مُفِيدًا عَلَى مَا ظَاهَرَ أَوْ عَلَى تَأْوِيل مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُتَنَاقِضٌ وَمُخْتَلِفٌ، لَكِنَّ هَذَا الْمُحْكَمَ يُقَابِلُهُ الْمُثَبَّجُ وَالْفَاسِدُ دُونَ الْمُتَشَابِهِ، وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ عَنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ كَالْقُرْءِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النَّكَاحِ فَإِنَّهُ مُرَدَّدٌ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، وَكَاللَّمْسِ الْمُرَدَّدِ بَيْنَ الْمَسِّ وَالْوَطْءِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ مِمَّا يُوهِمُ ظَاهِرُهُ الْجِهَةَ وَالتَّشْبِيهَ وَيُحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ. فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَمُ الْأَوْلَى الْوَقْفُ عَلَى اللهِ ؟ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مُحْتَمَلٌ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ وَقْتَ الْقِيَامَةِ فَالْوَقْفُ أَوْلَى وَإِلَّا فَالْعَطْفُ، إِذْ الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَاطِبُ الْعَرَبَ بِمَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ. فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، إِذْ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهَا؟ قُلْنَا: أَكْثَرَ النَّاسُ فِيهَا وَأَقْرَبُهَا أَقَاوِيلُ، أَحَدُهَا : أَنَّهَا أَسَامِي السُّوَرِ حَتَّى تُعْرَفَ بِهَا ، فَيُقَالُ سُورَةُ يس. وَقِيلَ : ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِجَمْعِ دَوَاعِي الْعَرَبِ إِلَى الاسْتِمَا؛ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ . ، عَادَتَهُمْ فَتُوقِظُهُمْ عَنْ الْغَفْلَةِ حَتَّى تَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ إِلَى الْإِصْغَاءِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا لِإِرَادَةِ مَعْنَى. وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَهَا كِنَايَةً عَنْ سَائِرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ عَنْهَا جَمِيعُ كَلَامِ الْعَرَبِ تَنْبِيهَا أَنَّهُ لَيْسَ يُخَاطِبُهُمْ إِلَّا بِلُغَتِهِمْ وَحُرُوفِهِمْ. وَقَدْ يُنَبَّهُ بِبَعْضٍ الشَّيْءِ عَلَى كُلِّهِ، يُقَالُ : قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَأَنْشَدَ أَلَا هُبِّي " يَعْنِي جَمِيعَ السُّورَةِ وَالْقَصِيدَةِ قَالَ الشَّاعِرُ : يُنَاشِدُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ / / فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ / / كَنَّى بِحَامِيمٍ عَنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ. فَإِنْ قِيلَ الْعَرَبُ إِنَّمَا تَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى الْجِهَةَ وَالاسْتِقْرَارَ وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ فَهُوَ مُتَشَابِةٌ. قُلْنَا: هَيْهَاتَ فَإِنَّ هَذِهِ كِنَايَاتٌ وَاسْتِعَارَاتٌ يَفْهَمُهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْعَرَبِ الْمُصَدِّقِينَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ تَأْوِيلَاتٌ تُنَاسِبُ تَفَاهُمَ الْعَرَبِ.
(۳) وجوابنا لِمَنْ مال إلى التفويض وادعى أنه مذهب الصحابة وأنه الحق أشكلنا عليه بالتالي : هل يعتمد المفوضة أن الرسول الله لم يكن يعلم تأويل آيات وأحاديث الصفات التي قالها ولا يعرف معناها إذا قالوا إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله تعالى لظاهر الآية ؟! وكيف يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة بتعلم التأويل كقوله في الحديث الصحيح لابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)؟! وكيف يمن الله على عباده الأنبياء بأنه سيكرمهم ويعلمهم تأويل الكتاب كما قال لسيدنا يوسف عليه السلام: { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث والأحاديث هنا ليست المنامات والرؤى وإنما الكتب المنزلة لقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِي} الزمر : ٢٣. فسيدنا يوسف عليه السلام أكرمه الله سبحانه بتأويل الأحاديث وكذلك بتأويل الرؤى. لذلك قال الله تعالى له : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ يوسف : ٦ . قال الطبري في التفسير (١٥٠/٧) : [ قوله: { ويعلمك من تأويل الأحاديث قال : تأويل الكلام العلم والكلام. وكان يوسف أعبر الناس وقرأ: { ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما } ]. وفي معنى ( حكما ) جاء قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} النساء : ١٠٥. { مَا كَانَ لِبَشَرِ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ } آل عمران : ۷۹. وقال القرطبي في تفسيره (۱۱۲/۹) : [ وقد قيل في تأويل قوله: { ويعلمك من تأويل الأحاديث أي أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد فهو إشارة إلى النبوة وهو المقصود بقوله: { ويتم نعمته عليك أي بالنبوة. وقال الفخر الرازي في تفسير الآية (٤٩٦/٨) : [ والثاني: تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله، وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول ].
وقال الإمام الغزالي في كتابه "روضة الطالبين وعمدة السالكين" (۳) ص (۱۳۰) ما نصه : [ واعلم أن الإعراض عن تأويل المتشابه خوفا من الوقوع في محظور من الاعتقاد يجر إلى الشك والإيهام واستزلال العوام وتطريق الشبهات إلى أصول الدين وتعريض بعض آيات كتاب الله العزيز إلى رجم الظنون .... وتأويلات الإمام الغزالي المشهورة في كتبه وشرحه للصفات في كتاب "الإحياء" وغيره يفيد عدم ميله لمذهب التفويض البتة . وأما كتاب الإمام الغزالي "إلجام العوام عن علم الكلام" فليس فيه عدم التأويل أو عدم تفسير الآيات والأحاديث وإنما فيه عدم خوض العامة في ترهات علم الكلام والفلسفة وعدم جواز التخبط في ذات الله تعالى بلا علم ولا قواعد ولا معرفة، فتأمل قوله في ذلك الكتاب: إن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور: التقديس ، ثم التصديق ، ثم الاعتراف بالعجز ، ثم السكوت ، ثم الإمساك، ثم الكف ، ثم التسليم لأهل المعرفة.... يعني الرجوع لأهل العلم الذين يفسرونه ويؤلونه ويبينون معناه، ولا يعني هذا أنه لا يجب عليهم تأويلها وفهم المعاني الصحيحة لها أو تحريم سؤال العلماء عن معانيها، لا سيما والإمام الغزالي والفخر الرازي وغيرهما شرحوا معانيها وبينوا المراد منها. وإذا وقع في مثل كتاب "إلجام العوام" أو في غيره عدد من العبارات والأفكار التي لا نوافق عليها فإنما نردها للخط العام الذي مشى عليه هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى. وعلى كل حال فالواجب أن نتبع ما هو الصواب عقلاً ونقلاً ، والصواب هو بيان معانيها حسب اللغة والسياق وآيات التنزيه المحكمة .
(٤) رواه أحمد (٢٦٦/١) ، وإسحاق (٢٣٠/٤) ، وابن حبان في صحيحه (٥٣١/١٥)، والحاكم (٣/ ٦١٥) ، وصححوه، قال الحافظ في " الفتح " (1 / ۱۷۰): [ وَهَذِهِ الدَّعْوَة مِمَّا تَحَقَّقَ إِجَابَة النَّبِيِّ لَا فِيهَا، لِمَا عُلِمَ مِنْ حَالَ ابْن عَبَّاسٍ فِي مَعْرِفَة التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ رَضِيَ الله عَنْهُ.. وَالْأَقْرَب أَنَّ الْمُرَاد بِهَا فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاسِ الْفَهْم فِي الْقُرْآن]. وصحح الحديث أيضاً ابن تيمية الحراني في "مجموع الفتاوى" (٤ / ٤٠٠) ، ومتناقض عصرنا الألباني في صحيحته (٨٨/٦)
(٥) ومن هنا يظهر بطلان القاعدة التي وضعها السلفيون المجسمة وملخصها: أن ما وصف بأن له وجها مثل قوله تعالى: ﴿ويبقى وجه ربك وإن أولناه في بعض النصوص بمعنى الذات، لكن هذا لا ينفي إثبات الوجه الحقيقي أو اليد الحقيقية، لأنه لا يطلق لفظ الوجه مجازاً إلا على من له وجه حقيقة)، وما ذكرناه أعلاه يبطل هذا الادعاء، ويمكن تتبع هذه الفكرة من كتبهم ومؤلفاتهم العقائدية. من ذلك قول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى " (٦ / ٣٧٠) : [إذا قالوا: بيده الملك، أو عملته يداك، فهما شيئان: أحدهما: إثبات اليد. والثاني: إضافة الملك والعمل إليها، والثاني يقع فيه التجوز كثيراً. أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له يد حقيقة، ولا يقولون: يد الهوى، ولا يد الماء. فهب أن قوله بيده الملك قد علم منه أن المراد بقدرته، لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة ] اهـ. وهذا هراء باطل و دلیل فساده: قول الشاعر : إذا الليلُ أَضْوَانِي بَسَطتُ يَدَ الهَوَى وَأَذْلَلْتُ دَمْعاً من خلائقه الكبر
انظر "ديوان أبي فراس ص (۱۳)، وانظر "خزانة الأدب لابن حجة الحموي (٣٤١/١) ، و " تاريخ دمشق" (٢٧/ ١٦)، فإن فيها أمثلة من ذلك.
(٦) وابن تيمية تناقض في قضية المجاز فنفاه في كتاب "الإيمان" (۱۰۹) وأثبته في "الرد على البكري" (۷۰۸/۲) وفي "درء التعارض" (١٤/٥). وبذا يتبين اضطراب من أنكر المجاز.
الأدلة المعتبرة والمردودة في الإيمان والعقائد:
مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
-
- Posts: 902
- Joined: Sat Nov 04, 2023 1:45 pm
Return to “مسائل وقضايا التوحيد والإيمان”
Jump to
- القرآن الكريم وتفسيره
- ↳ تفسير آية أو آيات كريمة
- ↳ أبحاث في التفسير وعلوم القرآن الكريم
- الحديث النبوي الشريف وعلومه
- ↳ قواعد المصطلح وعلوم الحديث
- ↳ تخريج أحاديث وبيان مدى صحتها
- ↳ شرح الحديث
- ↳ التراجم والرجال: الصحابة والعلماء وغيرهم
- ↳ أحاديث العقائد
- العقائد والتوحيد والإيمان
- ↳ القواعد والأصول العقائدية
- ↳ مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
- ↳ أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم
- ↳ قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
- ↳ الفرق والمذاهب وما يتعلق بها
- ↳ عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها
- التاريخ والسيرة والتراجم
- ↳ السيرة النبوية
- ↳ قضايا تاريخية
- ↳ سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة
- ↳ معاوية والأمويون والعباسيون
- الفكر والمنهج والردود
- ↳ توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ
- ↳ الردود على المخالفين
- ↳ مناهضة الفكر التكفيري والرد على منهجهم وأفكارهم
- ↳ أسئلة وأجوبة عامة
- الفقه وأصوله
- ↳ القواعد الأصولية الفقهية
- ↳ مسائل فقهية عامة
- ↳ المذهب الحنفي
- ↳ المذهب المالكي
- ↳ المذهب الشافعي
- ↳ المذهب الحنبلي
- علوم اللغة العربية
- ↳ النحو والصرف
- ↳ مسائل لغوية ومعاني كلمات وعبارات
- الكتب الإلكترونية
- ↳ كتب العلامة المحدث الكوثري
- ↳ كتب السادة المحدثين الغماريين
- ↳ كتب السيد المحدث حسن السقاف
- ↳ كتب مجموعة من العلماء
- المرئيات
- ↳ العقيدة والتوحيد: شرح متن العقيدة والتوحيد