بيان قضيتين هامتين : في أن سيدنا موسى ليس هو فقط من كلمه الله .. وبيان معنى كونه عليه السلام هو كليم الله :
قال سماحة السيد المحدّث حسن السقاف في كتابه "عقد الزبرجد النضيد شرح جوهرة التوحيد":
[/b]
أما القضية الأولى : فينبغي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى كلَّم غير سيدنا موسى عليه السلام ومن ذلك :
1- سيدنا آدم كَلَّمَه الله تعالى { قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } البقرة : 33 ، وقال تعالى { وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } البقرة : 35 ، وقال تعالى
{ وَيَا ءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} الأعراف : 19 ، وقال تعالى { فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } طه : 117 ، والأصل عدم الواسطة .
قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره : (3/6/216) : [ اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } البقرة : 253 ، قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله :
{ واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً } الأعراف : 155 ، وهل سمعه ـ سيدنا ـ محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج؟ اختلفوا فيه ؛ منهم من قال : نعم بدليل قوله : { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى }النجم : 10.
فإن قيل : إن قوله تعالى : { منْهُمْ مَّنْ كَلَّمَ الله } البقرة : 253 ، المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى ، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام ، قال : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } النساء : 164 ، ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس ، حيث قال : { فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } ص : 79-81 ، إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفاً فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال: { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } النساء : 164 ؟
والجواب : أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل الواسطة كانت موجودة ] انتهى كلام الفخر الرازي رحمه الله تعالى .
بل قال جمع من العلماء ـ وهو قول مرجوح عندنا وغير صحيح ـ إن الله تعالى كلَّم الناس جميعاً في عالم الذر قائلاً لهم : { .. أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا .. } الأعراف : 172 ، فكل من لم يكن يقول بقولنا ملزم بأن يقول بأن الله تعالى كلَّم جميع الخلق في عالم الذر بلا واسطة كما هو ظاهر النص .
وقد أثبت بعض أئمة الأشاعرة كإمام الحرمين أن هناك من أسمعهم الله تعالى كلامه غير سيدنا موسى عليه السلام إذ قال في كتابه (( الإرشاد )) ص (134): (( والشاهد لذلك من القضايا الشرعية : إجماع الأمة على أن الرب تعالى خصص موسى وغيره من المصطفين من الإنس والملائكة بأن أسمعهم كلامه العزيز من غير واسطة )) .
2- لمَّا قال الله تعالى { قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي } الأعراف : 144 ، لم يعن ذلك أن الله تعالى لم يصطفِ غيره برسالاته كما لم يعنِ أنه لم يكلِّم غيره . كما لم يدل قوله تعالى في حق سيدنا آدم عليه السلام مخاطباً إبليس { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لما خلقتُ بيديَّ } ص:75، أن غير سيدنا آدم خلق بغير يديه سبحانه ، ولم تعنِ اليدان أنهما غير القدرة ، لأن الله تعالى يقول كما هو معلوم : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ }
الذاريات :47 ، { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } يس : 71 ، بل إن تخصيص سيدنا آدم بالذكر يدل على الأفضلية والشرف وكذلك سيدنا موسى عليهما السلام .
وقد بين الله سبحانه وتعالى لنا أن طريقة التكليم تمت بالوحي ، قال
تعالى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } سورة طه : 11-13 ، فما في هذه الآية من أركان الكلام من النداء والوحي وقع لغير سيدنا موسى عليه السلام .
أما النداء : فقال الله تعالى لسيدنا آدم عليه السلام والسيدة حواء :
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } الأعراف : 22 ، وقال تعالى في حق سيدنا إبراهيم عليه السلام :
{ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ } الصافات : 104 .....
وأما الوحي : فتقدَّم قول الله تعالى في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى } النجم : 10 ، وقال تعالى { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ ءَامَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } هود : 36 ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } يوسف : 109 ، وقال تعالى لسيدنا موسى : { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى } طه : 38 .
وبذلك تم الجواب على ما أشكلوه بأن سيدنا موسى عليه السلام مخصوص بالتكليم دون غيره .
وأما القضية الثانية : فهي معنى كون سيدنا موسى كليم الله تعالى :
فقال الإمام الفخر الرازي في تفسيره : (3/6/216) : [ اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي ، الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره ؟ فقال الأشعري وأتباعه : المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ، فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف ، وقال الماتريدي : سماع ذلك الكلام محال ، وإنما المسموع هو الحرف والصوت ] . يعني أن الله تعالى خلق صوتاً سمعه سيدنا موسى عليه السلام وغيره ممن أراد الله تعالى إسماعه .
وتقدَّم قول الحافظ ابن حجر في (( الفتح )) (13/455) : [ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي مَنْصُور الْمَاتُرِيدِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّة نَحْوه لَكِنْ قَالَ : خَلَقَ صَوْتًا حِين نَادَاهُ فَأَسْمَعَهُ كَلامه ].
وقال السعد التفتازاني في شرح العقائد النسفية ص (84) :
[ وأما الكلام القديم الذي هو صفة الله تعالى فذهب الأشعري إلى أنه يجوز أن يُسْمَع ومنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وهو اختيار الشيخ أبي منصور رحمه الله ، فمعنى قوله تعالى { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } التوبة : 6 ، يسمع ما يدل عليه ، كما يقال سمعت علم فلان ، فموسى عليه السلام سمع صوتاً دالاً على كلام الله تعالى ، لكن لما كان بلا واسطة الكتاب والمَلَك خُصَّ باسم الكليم ] وهذا قول جيد للغاية .
وقال العطار في (( حاشيته على جمع الجوامع )) لابن السبكي (1/179) :
[ واستحال أبو منصور الماتريدي سماع ما ليس بصوت فعنده سمع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام صوتاً دالاً على كلام الله تعالى تولى خلقه من غير كسب لأحد من خلقه ووافقه أبو إسحاق الإسفراييني ] .
وقال الشرقاوي في (( حاشيته على شرح الهدهدي على أم البراهين ))
ص (75) : [ وذهب أبو منصور الماتريدي في أحد قوليه وأبو إسحاق الإسفراييني والرازي إلى أن كلامه تعالى الأزلي لا يسمع وإنما يسمع صوت يدل عليه يخلقه الله تعالى فموسى إنما سمع صوتاً ولفظاً ] .
ومن هذا يتبين أن تخصيص سيدنا موسى عليه السلام بالكلام هو لإظهار الفضل والتشريف ، وبه يتم الجواب على هذا الإشكال .
بيان قضيتين هامتين : في أن سيدنا موسى ليس هو فقط من كلمه الله .. وبيان معنى كونه عليه السلام هو كليم الله :
-
- Posts: 901
- Joined: Sat Nov 04, 2023 1:45 pm