تقدم معنا في المقال السابق أن الإمام أبا منصور الماتريدي كان يؤول اليد خلاف ما وقع في كتاب الفقه الأكبر المنسوب للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى الموضوع عليه قطعاً عندنا. وهناك كتب في تلك القرون نسبت لبعض العلماء والأئمة منها هذه الكتب المنسوبة للإمام أبي حنيفة وكذا ما وضعوه ونسبوه للإمام الشافعي من عقيدة، وهي مطبوعة باسم (وصية الشافعي) طبعها زهير الشاويش الوهابي في المكتب الإسلامي، وكذلك كتاب الحيدة المنسوب لعبد العزيز الكتاني تلميذ الإمام الشافعي الذي نص الذهبي في ترجمته في الميزان على أنه موضوع عليه، وكذلك وضعوا كتاب الرد على الجهمية ورسالة الاصطخري ونسبوهما لأحمد بن حنبل وقد نص الذهبي أيضاً على أنهما موضوعتان على أحمد. وهناك رسالة الرؤية والصفات للدارقطني، ورسالة في الاعتقاد منسوبة لأبي محمد الجويني والد إمام الحرمين، ومؤلفات أخرى وضعتها الأيدي الآثمة الأثيمة.
والذين لهم مصلحة في ذلك الوضع هم الحنابلة المجسمة المشبهة الذين يريدون أن يثبتوا أن أئمة السلف والحديث كانوا على مذهبهم في الاعتقاد.
وكذلك اخترع الحنابلة ومناصروهم أيضاً أقولاً نسبوها لبعض أئمة السلف تنص على التفويض، ويعنون بهذا التفويض إثبات صفات من الألفاظ المضافة أو الواردة في بعض الآيات والأحاديث وأنه لا يجوز تفسيرها ويجب أن يعتقد ظاهرها وحقيقتها عندهم، وكل هذه الأقوال أو غالبها لا تصح عن قائليها كما بينت ذلك في شرح الجوهرة في الكلام على التأويل والتفويض.
وقد تابع الأشعري أولئك فمشى على عدم التأويل والقول بالظاهر والحقيقة في كتابه مقالات الإسلاميين والإبانة كما سننقل لكم بعضا من نصوصه من هنالك، وبذلك يتبين أن أبا منصور الماتريدي المؤول أنظف وأصح اعتقاداً من الأشعري وهو إمام منزه حقيقة فيما يسمى بالصفات جزاه الله تعالى خير الجزاء.
فالأشعري يقول في (المقالات) (1/345): [وأن له عينين بلا كيف كما قال { تجري بأعيننا }].
ويقول أيضاً في (الإبانة):
[وجب أن يُرْجَع من قوله أيدي إلى يدين ؛ لأن القرآن على ظاهره، ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة، فإن وجدنا حجة أزلنا بها ذكر الأيدي عن الظاهر إلى
ظاهر آخر، ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقته لا يزول عنها إلا
بحجّة].
ويقول الأشعري:
[كذلك قوله تعالى: { لما خلقت بيدي } على ظاهره أو حقيقته من إثبات
اليدين، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة].
وقال بعد ذلك:
[بل واجب أن يكون قوله تعالى: { لما خلقت بيدي } إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة]!!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!
فعلَّق على هذا ابن حزم ـ قبل نحو ألف سنة ـ على هذا فقال في (الفصل في الملل والنحل) (2/127):
[وقال الأشعري إن المراد بقول الله تعالى أيدينا إنما معناه اليدان وإن ذكر الأعين إنما معناه عينان وهذا باطل مُدْخِلٌ في قول المجسمة]!!
وابن حزم مصيب في ذلك تماماً لأن جميع أهل التنزيه من الأشاعرة والماتريدية الذين جانبوا طريقة الأشعري ونابذوه لا يثبتون لله تعالى اليدين والعينين والوجه وغيرها من الأعضاء ولا يعدون هذه من صفاته سبحانه في متونهم وشروحهم وحواشيهم في التوحيد والعقائد، إلا من زاغ منهم وخرج عن سكة أهل التنزيه كبعض الشاذين المثبتين لـ (صورة الرحمن) على ظاهرها كملا علي القاري والبياضي، وكذلك الباقلاني في إثبات مثل العينين، وأمثالهم من الحائدين عن سكة التنزيه، فالمنزهون ومنهم جمهور الأشاعرة والماتريدية على التأويل والحمد لله تعالى.
والإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله تعالى ـ كما مر معنا ـ منابذ لطريقة الأشعري مع أنه في نفس عصره فهو يقول في كتابه "تأويلات أهل السنة" (2/52طبعة 6 مجلدات) و (3/551طبعة 10 مجلدات):
[{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، أي: نعمه مبسوطة: يوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء].
وويقول في كتابه "تأويلات أهل السنة" (4/323) و (8/705):
[فعلى ذلك ما ذكر من قبضته ويده ويمينه إنما هو الوصف له بالقوة، والسلطان، والقدرة على ذلك].
ويقول أيضا في "تأويلات أهل السنة" (7/36):
[وقال أبو بكر الأصم: دل قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أن قول اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: أنهم لم يريدوا حقيقة اليد، ولكن التضييق والتقتير، وكذلك لم يرد بقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} حقيقة بسط اليد، ولكن أراد التوسيع في الرزق والتكثير؛ ألا ترى أنه قال: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}].
وبهذا يتضح لكم الفرق والتمايز والتخالف بين المجسمة ومن تبعهم والمنزهة ومن سار على دربهم من فريقي أهل السنة والجماعة، حيث تنكشف الأمور أكثر فأكثر ويستبين الحق من الباطل، من خلال النصوص الثابتة في كتب كلا الفريقين.
ونحن يجب أن يكون مقصدنا هو الحق وعقيدة التنزيه الحقة المرضية المقبولة عند رب العالمين وعند رسوله الكريم، البعيدة عن التشبيه والتجسيم، والمتوافقة مع فهم نصوص الكتاب والسنة بالأسلوب واللسان العربي، لا بفهم وترهات المتشبثين بظواهر المتشابهات دون فهم ووعي وإدراك، كما قالوا (اعرف الحق تعرف أهله). فتقديس الأشخاص وتعظيمهم والدفاع عن باطلهم دون تقديس الحق والتمسك بعقيدة التنزيه جعلت بعض الناس يقعون بما وقعوا فيه من التعصب والحيرة وإيجاد المعاذير الباطلة لأولئك المخطئين.
وسنعرض إن شاء الله تعالى في المقالة القادمة بعض تأويلات الإمام الماتريدي ومقالاته، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
....... يتبع.