تكملة موضوع الأعمال شرط الإيمان وقضية الكبائر (الحلقة 5): تعريف الكبائر:

مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
أضف رد جديد
cisayman3
مشاركات: 300
اشترك في: السبت نوفمبر 11, 2023 8:00 pm

تكملة موضوع الأعمال شرط الإيمان وقضية الكبائر (الحلقة 5): تعريف الكبائر:

مشاركة بواسطة cisayman3 »

الجواب عن أقوى الأدلة التي احتج بها المخالفون في نجاة المجرمين أصحاب الكبائر:
استدل القائلون بعدم اشتراط الأعمال لصحة الإيمان والنجاة بعدة أدلة لا بد من ذكرها والجواب عليها، ونحن نذكر المهم منها وهي ما كان في القرآن الكريم، أما الأحاديث فهي آحاد معارضة بنصوص القرآن والسنة الصحيحة التي ذكرنا طرفاً منها، ونقتصر على حديث الشفاعة لأهل الكبائر الذي يوردونه دائماً، فنقول وبالله تعالى التوفيق:
1- قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } النساء: 48.
وجوابنا: أن هذه الآية عامة مخصصة، فقد شاء الله تعالى أن لا يغفر لأصحاب الكبائر ما لم يتوبوا، قال تعالى { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } النجم : 32، وقال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً
كَرِيماً } النساء: 31. وقال تعالى: { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } البقرة: 81، وقال تعالى: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } الجن : 23، وغيرها.
وجواب آخر وهو ما ذكره ابن جرير الطبري في ((تفسيره)) (19/44):
[عن خارجة بن زيد أنه دخل على أبيه ـ زيد بن ثابت ـ وعنده رجل من أهل العراق وهو يسأله عن هذه الآية التي في تبارك الفرقان والتي في النساء { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } النساء: 4، فقال زيد بن ثابت: قد عرفت الناسخة من المنسوخة نسختها التي في النساء بعدها بستة أشهر.
حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج قال: قال الضحاك بن مزاحم: هذه السورة بينها وبين النساء { ومن يقتل مؤمناً
متعمداً } النساء: 93، ثمان حجج.
وقال ابن جريج: وأخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جبير: هل لمن قتل مؤمناً متعمداً توبة ؟ فقال: لا، فقرأ عليه هذه الآية كلها فقال
سعيد بن جبير: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها عليَّ ؛ فقال: هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء].
المقصود بآية الفرقان: قوله تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} الفرقان: 68-71، فإن قاتل النفس هنا لا يدخل في التوبة لأن هذا عام خصصته آية سورة النساء.
وحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس هذا رواه البخاري في صحيحه (4762-4766)، وفيه: قال ابن عباس: ((لا توبة له)) أي لقاتل المؤمن عامداً. وقال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (8/496): [وقول ابن عباس بأن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً لا توبة له مشهور عنه،.. قال: وأنى له التوبة والهدى].
فآية { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } النساء: 48، منسوخة عندهم، ومن ادَّعى أن آية النساء: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } النساء: 4 هي المنسوخة فليس ذلك صحيحاً فقد روى ابن جرير في تفسيره (5/221) عن الضحاك بن مزاحم (ت105هـ) قال: ((ما نسخها شيء منذ نزلت، وليس له توبة)).
قال ابن جرير في تفسيره (5/221):
[عن أبي الزناد قال سمعت رجلاً يحدث خارجة بن زيد قال سمعت أباك في هذا المكان بمنى يقول نزلت الشديدة بعد الهَيِّنَة قال أراه بستة أشهر يعني { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } بعد { إن الله لا يغفر أن يشرك به }]!!
فمن قال إنها منسوخة كان معناها عنده أنها كانت مكية قبل نزول الفرائض، وما قلناه هو على الأقل الأحوط ديانة، والأوضح دليلاً.
2- قوله تعالى: { قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } الزمر: 53.
وجوابنا: أننا لا ننكر أنه من تاب إلى الله توبة صادقة وأدَّى ما فرضه الله عليه فإن الله تعالى يغفر له ذنوبه جميعها، والآية ليس فيها مخالفة لهذا، فلا يصح الاستدلال بعمومها كما لا يصح الاستدلال بعموم قوله تعالى: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } آل عمران: 129. فيستدل بهذا أنه تعالى يغفر لمن يشاء حتى الكافرين، لأن بقية الآيات قيدت هذا العموم. ومن تلك الآيات المقيدة قوله تعالى:
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } آل عمران: 135.
وهل يقول هؤلاء بمثل عموم قوله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } المائدة: 18، أم يقيدونه ويضبطونه بآياتٍ أخرى ؟!
3- قوله تعالى: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ
الْعِقَابِ } الرعد: 6.
وجوابنا: أن معنى الآية كما هو واضح: { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } إن تابوا وآمنوا وعملوا، أما إذا لم يتوبوا فهو سبحانه { لشديد العقاب }. وقد بيَّن الله تعالى ذلك بقوله { فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الحج: 50.
والجمع بين الأدلة واجب كما هو معلوم وخاصة بين القطعيات. وإلا فالله تعالى لا يغفر للإنسان الكافر مع ظلمه وهو داخل في عموم قوله تعالى
{ للناس }، فهذا الظاهر مؤول باتفاق.
وأما حديث: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) رواه الترمذي (2436) وقال عقبه: ((هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه يستغرب من حديث جعفر بن محمد)).
الحسن الغريب عند الترمذي هو الحديث الضعيف الذي عمل به البعض.
وأقول بأن هذا حديث باطــل. روي هذا الحديث عن جابر بن عبدالله عند الترمذي (2436) واستغربه كما في الأعلى، وفي إسناده محمد بن ثابت وقد قال أبو حاتم وأبو زرعة عنه: ليس بالقوي، ورويَ من حديث أنس بن مالك عند الترمذي (2435) وابن حبان (14/387) واستغربه الترمذي أيضاً. وسبب ضعفه من الناحية الحديثية الإسنادية أن السند المعوَّل عليه عند من صححه هو من طريق عبدالرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس، ورواية معمر عن ثابت ضعيفة ومضطربة وفيها أوهام كثيرة عند أئمة هذه الصناعة، قال ابن معين:
((معمر عن ثابت ضعيف)) (تهذيب الكمال 28/309)، وقال أبو حاتم: ((ما حدَّث معمر بالبصرة فيه أغاليط))، وقال يحيى: ((وحديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي النجود وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطرب كثير الأوهام)) (تهذيب التهذيب 10/245)، وقال الحافظ ابن الشرقي: ((إن معمراً كان له ابن أخٍ رافضي وكان معمر يمكنه من كتبه فأدخل عليه هذا الحديث ـ في فضل عليٍّ ـ، وكان معمر مهيباً لا يقدر أحد على مراجعته فسمعه عبدالرزاق في كتاب ابن أخي معمر)) (سير أعلام النبلاء 12/367 للذهبي، وتاريخ بغداد 4/42، وتهذيب التهذيب 1/10)، ولأجل ذلك لم يخرج له البخاري أي معمر عن ثابت عن أنس إلا متابعة في موضع واحد، وكذلك مسلم أخرج له في موضع واحد حديثاً، وآخر متابعة، وهذا انتقاء منه يؤكّد ضعفه الذي قاله أولئك الأئمة، ومع ادَّعاء بعضهم صحة إسناده في الظاهر وأن رجاله رجال الصحيحين لم يخرجه صاحبا الصحيحين، ومن الغريب أيضاً أن عبدالرزاق لم يخرج الحديث في مصنفه مع أنه من جملة مروياته الموافقة لجمهور أهل السنة. ورواه أبو داود في سننه (4739) من طريق بسطام بن حريث عن أشعث الحداني عن أنس به، وبسطام هذا قال أبو حاتم فيه: ((شيخ))، أي ضعيف
(((تهذيب التهذيب)) 1/310)، وقال ابن حبان في ((الثقات)) (6/112): [بسطام بن حريث الأصفر.. يروي عن أشعث الحداني عن أنس روى عنه سليمان بن حرب، وما أرى الأشعث سمع أنساً]، وذكره أبو جعفر العُقَيلي في ((الضعفاء)) (1/29) وقال:
((في حديثه وَهَمٌ))، وقال الدارقطني: ((يعتبر به)) (تهذيب التهذيب 1/310)، فأنى يصح مثل هذا الإسناد المعارض للقطعيات!! ثم إن مسلماً روى حديث جابر بن عبدالله في صحيحه (201) وليس فيه ذِكْرٌ لأهل الكبائر ولفظه: ((لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)).
هذا من ناحية الصناعة الإسنادية الحديثية.
أما جوابنا من الناحية الإخرى العقلية الأصولية فنقول: إن هذا الحديث وأمثاله معارض لما تقرر في القرآن في أصحاب الكبائر، ومعارض لما ورد في القرآن في مثل قوله تعالى: { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ } الزمر: 19.
ولقوله تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } البقرة: 123، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } البقرة: 254، وقوله تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الأنعام: 51. وقوله
تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } الأنبياء: 28، فهل ارتضى الله تعالى أصحاب الكبائر ؟!
وقال تعالى: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } غافر: 18.
قال القاضي(1): [هذا الخبر لم تثبت صحته أولاً، ولو صح فإنه منقول بطريق الآحاد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومسألتنا طريقها العلم، فلا يصح الاحتجاج به، ثم إنه معارَض بأخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في باب الوعيد، نحو قوله: ((لا يدخل الجنة نمام ولا مدمن خمر ولا عاق))(2) وقوله: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً))(3) إلى غير ذلك، فليس بأن يوجد بما أوردوه أولى من أن يوجد بما رويناه، فيجب اطراحهما جميعاً، أو حمل أحدهما على الآخر، فنحمله على ما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله، ونقول: المراد به: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي إذا تابوا..].
والشفاعة إنما تكون للتائبين من المؤمنين أن يقبل الله تعالى توبتهم ويدخلهم الجنة، وكذلك الشفاعة أيضاً في رفع الدرجات، ويأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في موضع الكلام على الشفاعة والله الموفق.
فمن صدَّق بقلبه ونطق بالشهادتين وعمل صالحاً بأداء الفرائض واجتنب الكبائر فهو المؤمن الناجي، ومن نطق بالشهادتين وأتى بالأعمال وليس لديه تصديق قلبي فهو منافق، ومن ترك الثلاثة فهو كافر، ومن صدَّق بقلبه ونطق بالشهادتين وفعل الكبائر فهو فاسق، فالناس أربعة أنواع: مؤمن ومنافق وكافر وفاسق. فالمؤمن هو الناجي عند الله تعالى والثلاثة الباقون هلكى إذا ماتوا ولم يتوبوا إلى الله تعالى. فأما المؤمن الذي أتى بالأمور الثلاثة (التصديق القلبي، والنطق بالشهادتين، والإتيان بالأعمال الذي يتضمن الإتيان بالمأمورات والانتهاء عن المنهيات) فلا شك في نجاته، وأما الكافر والمنافق، فلا شك في هلاكهما، وبقي الفاسق فقد جرى فيه الخلاف بين أهل الإسلام فذهب بعضهم إلى أنه ناجٍ ومصيره إلى الجنة ولو بعد عذاب ويعزى هذا القول إلى أهل السنة لكنه في الحقيقة لشطر منهم وليس لجميعهم، وذهب قوم إلى أنه هالك ومصيره النار خالداً مخلداً فيها مع الكفار والمنافقين (وهذا هو الذي يقال له عند المعتزلة صاحب المنزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن قائم بالأعمال ولا هو كافر غير مصدق بل هو مقرٌّ وعاص فسموه فاسقاً).
والمقصود هنا من تعريف الإيمان معرفة الشروط الواجب تحققها في الإنسان ليدخل الجنة كما ينبغي أن نعرف الأمور الواجب اجتنابها والتي تدخل صاحبها النار، لأن الله تعالى بيَّن في كتابه الكريم أن مَنْ آمن وعمل صالحاً دخل الجنة قال تعالى: { وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } الرعد: 22. وقال سبحانه: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } الأحزاب: 35 . وقال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } المجادلة: 22. فالفسقة الفجرة العتاة الظلمة الذين يقتلون الأبرياء(4) ويعذِّبون المؤمنين { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ(5) فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } الجن: 15، ويقترفون الزنا وشرب الخمور وشهادة الزور وقذف المحصنات(6) ونحو ذلك من الأفعال الشنيعة القبيحة والمنهيات أو لا يقومون بأداء الفرائض ولا بفعل الطاعات والمأمورات ليسوا مؤمنين على التحقيق وإن أظهروا الشهادتين وأقاموا الشعائر أحياناً، وأما التصديق القلبي فالله هو الذي يعلمه وهو غير كافٍ للنجاة عند الله إذا اقترن بما ذكرنا من الموبقات! قال تعالى: { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } المائدة: 49، ولذلك كفَّر علماء السلف أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي لقتله الأبرياء وأخذه الناس بالظنة وفعله الأفاعيل مع أنه كان يظهر الشهادتين ويخطب ويصلي بهم ويحفظ القرآن عليه لعائن الله تترى، قال الحافظ ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (2/185) في ترجمة الحجاج: [قال زاذان: كان مفلساً من دينه، وقال طاووس: عجبت لمن يسميه مؤمناً، وكفَّره جماعة منهم: سعيد بن جبير، والنخعي، ومجاهد، وعاصم بن أبي النجود، والشعبي، وغيرهم..].
وهذا يدلنا ويثبت لنا أن هؤلاء الأئمة من السلف كانوا يرون أن صاحب الكبيرة كالحجاج مُخَلَّدٌ في نار جهنم لقتله الناس وفعله الأفاعيل الموبقات مع إقراره بالشهادتين. وهو من جملة علماء السوء والقرَّاء الفسقة الذين يهونون المعاصي والكبائر لسادتهم وكبرائهم الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } الأعراف: 175، وقوله تعالى: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } الأحزاب: 67-68.
وقال الحافظ في ((الفتح)) (13/61): [ويدل على تعميم العذاب لمن لم ينه عن المنكر وإن لم يتعاطاه قوله تعالى: { فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } النساء: 140، ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظَّلَمَة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة هذا إذا لم يُعِنْهُم ولم يرض بأفعالهم فان أعان أو رضي فهو منهم].
وقال الإمام النووي في ((شرح مسلم)) (3/137) في حديث من يذادون عن الحوض: [وقال الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض.... قال: وكذلك الظَّلَمَة المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر..].
وبذلك يتضح أن القول بنجاة أصحاب الكبائر وأنهم في خطر المشيئة إن شاء عذَّبهم وإن شاء عفا عنهم باطل مردود وليس مجمعاً ولا متفقاً عليه كما يزعمونه أحياناً وأن من خالف فقال بعدم نجاة أصحاب الكبائر لا يعتبر ضالاً ولا خارجاً عن أهل السنة، ولا متنكباً عن جادة الحق والصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ((شرح الأصول الخمسة)) ص (690-691).
(2) رواه ابن حبان في صحيحه (8/178) من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعاً بلفظ:
((لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر)). وفي صحيح مسلم (105) عن حذيفة
مرفوعاً: ((لا يدخل الجنة نمام)).
(3) هو قطعة من حديث رواه البخاري في صحيحه (5778) ومسلم (109) من حديث أبي هريرة مرفوعاً.
(4) { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } النساء: 93.
(5) وهم الظالمون الجائرون.
(6) قال تعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } النور: 4
_______________
أضف رد جديد

العودة إلى ”مسائل وقضايا التوحيد والإيمان“