أرسل لي ابننا البار الأستاذ الفاضل أسامة باكير الرسالة التالية رداً على من تطاول علينا بالباطل وإليكم رسالته جزاه الله عنا خيراً:
بسم الله الرحمن الرحيم، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين, ورضي الله عن أصحابه من الأنصار والمهاجرين وأتباعٍ بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
من المؤسف أنّ الصّراع بين أهل السّنة الأشاعرة والفرقة الوهّابية محتدمٌ شديدٌ منذ نشأة هذه الأخيرة وسعيها إلى احتكار مسمّى (أهل السنة والجماعة) وإقصاء الآخرين بدعاوى مختلفة من أبرزها اتهامهم بالشرك والقبوريّة والابتداع في الدين ومخالفة نهج (السّلف الصالح)، ذلك السّلف الذي لم يتّفق يومًا على فكرٍ أو اعتقاد أو منهج!!
وقد أخذ هذا الصراع أشكالًا متنوّعة منذ مائتي عامٍ تقريبًا، وتفاوتتْ درجاته حتى اشتدّ في الآونة الأخيرة بسبب ما يحدث في بلاد المسلمين من نزاعات مختلفة.
وقد برز في السّاحة العلميّة جماعةٌ من أهل العلم والفضل حملوا على عاتقهم مسؤوليّة التصدّي للفكر الإقصائيّ والتكفيريّ، وبذلوا جهودًا كبيرةً في بيان فساده ودحضه وإبطال أسُسه وما بُني عليه.
ولئن سألتَ عن أبرز هؤلاء العلماء الأفاضل الذين ساهموا في توعية الناس وطلبة العلم، وفي حماية العقائد الإسلامية الحقّة ومنهج التنزيه الأصيل من ضلالات التجسيم والتشبيه، والسّنة الشريفة من الحشو والعبث في عصرنا فستجد العلّامة الشّريف حسن بن عليّ السقّاف -حفظه الله تعالى- في مقدّمتهم، ومحلَّ إجماع الموافق والمُخالف، وما ذلك إلا لجهوده الجبّارة التي ظهرت في كتبه ورسائله القيّمة وفي دروسه ومحاضراته المفيدة، فجزاه الله تعالى خير الجزاء!.
وإنْ تعجبْ فعجبٌ فعلُ بعضِ المنتسبين إلى طلب العلم وحملة الدكتوراه إذ يزعمون أنّ مشاريعهم هي التصدّي للفكر الإقصائيّ ونصر عقيدة أهل السنة ثمّ تراهم يوجّهون سهامهم نحو السيّد السّقاف والمدرسة الغمّارية المباركة التي خرّجته متناسين أفضالهم عليهم وعلى مشاريعهم وبرامجهم الفكريّة للعقود الأربعة الأخيرة!!
ويتجاوز بعضهم الحدّ ويفتحون لمتابعيهم السذّج باب الانتقاص من السيّد السقاف وأمثاله إلى درجة الشتم والتضليل والتفسيق!! حتى زعم بعض هؤلاء أنّ السيّد الذي أمضى عمره في الانتصار للعقائد الحقّة وفي الدفاع عن مدرسة أهل السنة والجماعة والحديث ليس منهم بل هو عدوّ لهم!! مستدلًّا بدعاوى فارغة لا تمتّ للعلم والتحقيق بصلة!! وإنما هي سراب بقيعة يحسب الظمآن ماء!!
وكنت عزمتُ على تفصيل الردّ على ذلك الأخ الذي يُهاجم شيخنا السّقاف ويتطاول عليه بغير حق، ولكني وجدت شيخنا وبعضَ المحبّين قد سبقوا إلى ذلك، كما لم أجد في سلسلته كلامًا علميًّا يَستحقّ الرد المُفصَّل، ولذلك سأتناول في هذا المقال أبرز انتقادات هذا الرجل ومَن وافقه وبغير إطالة، غاضًّا الطرف عن السبّ والشّتم الذي يجتهدون فيه!، وقد ربطتني به علاقة احترام وصداقة ثمّ ارتآى أنْ يتخلّى عنها حين بدأ التعرّض للسيّد السقاف، ربما لعلمه أني أحد تلامذته ومحبّيه فخشي أنْ أردّ عليه، والله أعلم، أصلح الله حالنا وإياه!
أولاً:
ادّعى هذا الرجل أنّ السيّد السقاف أنكر معلومًا من الدين بالضّرورة!! وهذا المعلوم -بزعمه- هو اعتقاد وجود صراط يوم القيامة أحدّ من السيف وأدق من الشعرة!!
وقد تقدّم الرد عليه في رسالة خاصة تبطل دعواه، ولكني أسأل هذا الأخ بعض الأسئلة:
1- كيف تجعل أمرًا مُختلفًا فيه معلومًا من الدين بالضرورة؟
2- هل تجهل أنّ المعلوم من الدين بالضّرورة هو الأمر المقطوع بثبوته ودلالته فيكفر منكره؟! وأنّ الأمر لا يكون معلومًا من الدين بالضّرورة إلا إذا منعت الضرورة مخالفته وكان دليله قاطعًا للعذر!
3- كيف تجمع بين عدم تكفيرك لمَن ينكره من الفرق الإسلامية الأخرى وتعتبر ذلك خلافًا عقائديًّا مستساغًا بينما تعتبره اعتقادًا ضررويًّا حين ينكره السيد السّقاف؟! أم أنّ المسألة لعبٌ بالمصطلحات وإطلاق كيديّ للأحكام وبُعدٌ عن الإنصاف؟!
ثانيًا:
وكذلك يدّعي أنّ السيّد السّقاف -حفظه الله تعالى- يُخالف الإجماع!! ويُكثر هذا الأخ من دعاوى الإجماع في الوقت الذي يُنكر فيه على الشيخ ابن تيمية الحرّاني وأتباعه إكثارهم منها!! فيقع فيما ينهى عنه!! ويعلمُ أهل البحث والتحقيق أنه لا وجود لمسألة واحدة خرق السيّد السقاف الإجماع فيها، وكيف يفعل ذلك وهو ممّن يعتبرون الإجماع دليلًا وله فيه مؤلَّف مستقل؟
إنّ الإجماع الذي يلتزمه السيّد السقاف هو اتفاق العلماء المجتهدين من جميع الفرق الإسلامية وليس إجماع أهل السنة والجماعة فقط!! فافهم قبل أنْ تتكلم!!
وقد بسط فضيلتهُ القول في مسألة الإجماع في رسالته الموسومة بـ[احتجاج الخائب بعبارة مَن ادّعى الإجماع فهو كاذب]، وهي منشورة على الشبكة، فلتراجع!
فالحقّ أنّ المشكلة ليست عند السيّد السقاف، وإنما هي الجهل بالمصطلحات الشرعيّة! وإلقاء الكلام بغير تدبر! فما يعتبره بعضهم إجماعًا لا يكون كذلك عند التحقيق!! فلا ينبغي لطالب العلم أنْ ينساقَ وراء هذه الدعاوى بل يجب عليه أنْ يبحث ويُفتّش عن أصولها لتتبيّن له الحقيقة!
ثالثًا:
أمّا رميه للسيّد السّقاف بالتشيّع، فهذه تهمة تُضحك الثكلى إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ هذا الأخ نفسه يعترف بوجود سلفٍ من أكابر أئمة أهل السنة وأساطين الحفّاظ والمُحدّثين يقولون في آل الطليق وآل الطريد نفسَ قول السيّد السقاف وتلامذته! بل يعترف أيضًا ببعض موبقات آل الطليق التي يُكابر في إنكارها غيرُه، ولكنه يختار -رغم ذلك- الترضية لأنها مذهب الجمهور السنيّ! فبما أنّ الأمر كذلك، فلا معنى إذن للتشنيع والتهويل واستفزاز العامّة وتحريضهم على السيّد السقاف، فهذا شيء معيب وتصرّف سوقيّ صبيانيّ!
ومَن أراد المزيد من التفصيل في هذه المسألة وقطع الشكّ باليقين فليرجع إلى كتاب (زهر الريحان) للسيّد السقاف، وسيجد فيه ما يشفي غليله! وسيعلم أنّ تهمة التشيّع ليست إلا هذيانًا وتدليسًا على البسطاء!
رابعًا:
دعوى مخالفة منهج أهل السنة في الكفّ عمّا جرى بين الصحابة!
يزعم بعض الشيوخ أنّ أهل السّنة يعتقدون بوجوب الكفّ عمّا جرى من نزاعات بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم! ويستشهدون على ذلك ببعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبأقوال لبعض العلماء!
والحقّ أنّ هذه العقيدة باطلة في ذاتها، وغير قابلة للتطبيق أصلًا! إذ لا يوجد أحدّ من علماء المسلمين كفّ لسانه عن الخوض فيما جرى بين الصّحابة أو نآى بنفسه عن اتخاذ موقف من تلك الأحداث! لأنّ معنى الكفّ عن الخوض فيها يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ مذهب التفويض في مسألة الصّفات الإلهيّة التي يرى أصحابه وجوب السّكوت عن آيات وأحاديث الصفات وأنّ قراءتها هي تفسيرها!
فهل الأمر كذلك في الحديث عن الخلاف بين الصحابة؟! كلا!
إنّ الذي يصف الفريق الفلانيّ بأنه محقّ، وأنّ الآخر مُبطلٌ، ثمّ يكيل أجر الاجتهاد للفريق المُبطل، ويترضّى عن رؤوسه ويُسيّدهم ويُدافع عنهم، فهذا لا يُقال عنه أنه سكت وكفّ!!
فالسّكوت -كما بيّنا- هو التزام الصمت واتخاذ موقف الحياد وإغلاق هذا الملف من أصله، وهذا ما لم يقل به أحد!
ومن هنا يُعلَم أنّ المراد من هذه المقولة -التي يُروَّج لها على أنها عقيدة سنيّة- هو منع إظهار الحقائق التاريخيّة وطمسها!
ولا بأس إنْ ذكرنا إعراض هذا الرجل -كما يفعل كثيرون غيره من دعاة الالتزام بالسّنة الشريفة- عن أقوال أئمة الهدى من آل بيت نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- في مقابل تمسّكه الشديد بأقوال غيرهم، بل ينعتون مذاهبهم بأنها مذاهب بدعة وضلال وشذوذ!!، ويضربون بذلك وصايا رسول الله بالتمسّك بعترته الطاهرة عرض الحائط ثمّ يحاربون مَن يدعو إليها وذلك كله بدعوى التسنّن!، وليت شعري أيّ تسنّن هذا الذي تنادون به وأنتم لا تعبأون أصلاً بما ثبتَ متواترًا عن صاحب السّنة -صلى الله عليه وآله وسلم- من وصاياه بعترته!! وما هذا إلا ضرب من ضروب النصب!!
فأقلّ ما يُقال لهم إذ يلوموننا على الاستشهاد بأئمة العترة الشريفة أهل بيت نبيّنا: تلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها!
الخلاصة ومحلّ النزاع:
إنّ منهج هذا الأخ ومشروعه الفكريّ يتلخّص في اعتماد قول جمهور أهل السنة في المسائل العلميّة والعقديّة ثمّ قول المذاهب الأربعة في الفقه، ومحاربة وعزل غير ذلك، فهو يتبنّى التقليد منهجًا ويعضّ عليه بالنواجذ!!
وهو ليس مطّلعًا على تراث المذاهب الإسلامية الأخرى!!
ولا يخفى على مُطّلعٍ أنّ التقليد في العقائد مرفوض عند كثير من أهل العلم من أهل السنة قبل غيرهم، بل إنّ بعضهم تجاوز الحدّ فلم ير إيمان المُقلّد معتبَرًا! فمسألة التقليد ليست مطلقةً ولا مطلوبةً بهذا الشكل الذي يُلبّس فيه بعض الناس فيُظَنّ أنّ التقليد فرض، وأنّ المجتهد والمُتخيّر لنفسه على باطل!!
فالأخذ بقول جمهور أهل السّنة يصلح منارًا لطالب العلم المُبتدئ ومنهجًا للمُقلّد المحض والذي لا يقوى على البحث العلميّ والتمييز بين المقالات وللاستئناس، ويُعتبر به في مجال الترجيح بين الأقوال وتحديد أصحابها وحصر المذاهب، وهو حجّة على أهله كما يرى بعض المحقّقين، ولكنه ليس إجماعًا، ولا يصلح -بذاته- دليلًا شرعيًّا يُرمى مُخالفُه بأشنع الاتهامات!! إذ لا توجد آية قرآنيّة ولا حديث صحيح يجعل قول أهل السّنة أو غيرهم فيصلًا بين الحقّ والباطل فضلًا عن قول جمهورهم!! ولن تجد ذلك إلا في عقول المقلّدة والمتعصّبين من أتباع أيّ فرقةٍ إسلاميّة!!
فالفرق إذًا كبير جدًّا بين اعتماد قول الجمهور لغاية تنظيميّةٍ إرشاديّة وبين جعله دليلًا شرعيًّا لا يقبل النقاش!!.
والسيّد السقّاف يدعو إلى احترام المسلم وما يعتقد، وأنّ لكلٍّ الحقّ والحريّة في ما يعتقده، ويرفض الحَجر والإقصاء، وهذه كتبه ومقالاته تشهد على منهجه التسامحيّ!
فليست مشكلته فيما يعتقد مُخالفوه، وإنما هي مع الإرهاب الفكريّ، وسعي بعضهم إلى إقصائه والتّشنيع عليه وتشويه سمعته بالباطل!
وقد بيّن السيّد السقّاف -حفظه الله تعالى- في مقالاته العلميّة نماذج كثيرةً من اختلاف أئمة أهل السنة والجماعة في مسائل اعتقاديّة أصلية وفرعيّة، فلا حاجة إلى التطويل بذكر بعضٍ منها، ليعلم الناس أنّ الاختلاف موجود، وأنه لم يشكّك أحدٌ في نوايا هؤلاء الأئمّة والعلماء، ولم يجرؤ عاقل على اتهامهم بالجهل بله محاربة منهج أهل السنة!، فلو كانت مخالفة قول الجمهور باطلًا لما فعلوها!.
ورحم الله الإمام الغزالي الذي قال في كتابه "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة": (فخاطبْ نفسك وصاحبكَ، وطالبْه بحد الكفر، فإن زعمَ أنّ حدّ الكفر ما يخالف مذهب الأشعري، أو مذهب المعتزليّ، أو مذهب الحنبليّ، أو غيرهم، فاعلم أنه غرّ بليد، قد قيّده التقليد، فهو أعمى من العميان فلا تضيّع بإصلاحه الزمان!) ا.هـ.
إذا تبيّن هذا، فليكن معلومًا أنّ التشنيع على السيّد السقاف ما هو إلا قصور وجهل وتعالم لا يُلتفَت إليه ولا يُعوَّل عليه في ميدان البحث والتحقيق العلميّ!
وأقول ختامًا:
إني عرفتُ من الهواشم سيّدًا
مُتـجـلببًا بالحــقّ والإنصــــافِ
إنْ كنتَ تجهلهُ فدونكَ وصفهُ
فالنّاس نعرفهمْ من الأوصافِ
فهو الذي حاز المعارفَ كلّها
ولذكرهِ وَقــعٌ على الأجـلافِ
مُـتـكـلِّــمٌ ومُحِـــدِّثٌ مُتـفـنّـنٌ
في الفقه والتّاريخ ليس بخافِ
ومُنـــــزّهٌ للهِ وهْــو مناضـــلٌ
في دحر أهل الزّيفِ والإرجافِ
ولقد علمـتُ بأنّ عتــرة أحمدٍ
هم سـادةُ الأسلافِ والأخلافِ
هذي الصّفاتُ وسيّدي موصوفها
حسـنٌ سـليلُ عليٍّ السّـقافِ!
واللهَ أسألُ أنْ يحفظ سيّدنا الشريف حسن بن علي السّقاف، وأنْ يبقيه سيفًا مصلتًا على الغوغاء والرعاع والمتعالمين، وأنْ يبارك له في علمه وعمله، وأنْ يطيل بقاءه بخير، وينفع به البلاد والعباد!
والحمد لله على كل حال، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله الطاهرين.