هناك نصوص في بعض الأحاديث تصور الله تعالى بأنه جسم على شكل إنسان وأنه يأتي إلى الخلائق يوم القيامة بغير صورته التي يعرفونها - وكأنه سبحانه له صورة وكأن الخلق عرفوا صورته قبل ذلك - تعالى الله عن ذلك، ثم يأتيهم بصورته التي يعرفونها - وهذا فيه أنه يتشكل فتارة يأتيهم بصورته وتارة بغير صورته - وأنه يكشف لهم عن ساقه وأنه ينطلق إلى الصراط فيتبعونه! وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذن على الله يوم القيامة في داره [فأستأذن على ربي في داره (خ)]
وفي مسند أحمد: (فآتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب فأقرع الباب فيقال من أنت فأقول أنا محمد فيفتح لي فآتي ربي عز وجل على كرسيه أو سريره)! وفي بعضها أن الله تعالى يتجلى لهم ضاحكا حتى يبدو عن أضراسه أو لهاته - كما في صحيح أبي عوانه - تعالى سبحانه عن تصوير مجسمة الأمم السابقة الذين نقلوا هذه الترهات والخرافات للرواة فصيروها أحاديث تروى في الصحاح! وأنه تعالى يأخذ السموات بيمينه ويطوي الأرضين بشماله أخذا بظواهر بعض الآيات دون فهمها (بالعقل) وباللسان العربي الذي نزل القرآن الكريم به والذي لا يفيد تشبيهاً ولا تجسيما عند من نزل عليهم وفيهم هذا القرآن المبين، إلى غير ذلك من الأحاديث الشاذة المردودة التي لا نقبلها والتي بثها المجسمة والمشبهة اليوم والتي تشوش على عامة الناس والطلبة المبتدئين عقائدهم، وبعضها موجود في الصحاح وهي مردوة وغير مقبولة عندنا، وقد سلك أهل العلم فيها مسلكين ما بين مؤول لها أو راد، ولا بد لأهل العلم أن يتعرضوا لذلك وأن يبينوا معناه وقبوله من رده. ولا يتركوا الناس في حيرة منها!
والقول الفصل عندنا أنها من جملة الأحاديث المردودة وإن رويت في الصحاح وإليك بعض تلك الأحاديث مع أقوال العلماء فيها:
من تلك الأحاديث حديث (رداء الكبرياء) الذي استدل به ابن قيم الجوزية في كتابه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" حيث قال
[وأما حديث أبي موسى ففي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)].
قلت: روى هذا الحديث الطيالسي في مسنده ص (72برقم 529) بلفظ: (أن يزوروا ربهم في جنة عدن) وليس بلفظ (أن ينظروا ربهم) وهو من طريق أبو قدامة الحارث ابن عبيد وهو إسناد مذكور في صحيح مسلم، وهذا يعكر على استدلالهم به، إذ ليس فيه إثبات الرؤية بل فيه المنع منها، وهو حديث مردود عندنا وإليك ذلك:
أ ـ أبو بكر بن أبو موسى الأشعري ناصبي، وهو غير ثقة عندنا! قال ابن سعد في ((الطبقات)) (6/269): ((كان قليل الحديث يُسْتَضْعَف))(1)، وجاء في ترجمته في ((تهذيب الكمال)) (33/145): قال الآجُرّي:
[قلت لأبي داود: أبو بكر بن أبي موسى سمع من أبيه ؟ قال: أراه قد سمع، وأبو بكر أرضى عندهم من أبي بردة بن أبي موسى، كان يذهب مذهب أهل الشام، جاءه أبو غادية قاتل عمار(2) فأجلسه إلى جنبه وقال: مرحباً بأخي(3)].
وأمر آخر وهو أنَّ عبد الله بن أحمد قال في العلل: قلت لأبي: فأبو بكر بن أبي موسى سمع من أبيه قال: لا(4).
وأخو أبي بكر هذا هو أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن سلام الإسرائيلي وهؤلاء من نقلة الإسرائيليات فلعله سمع هذا الحديث من هؤلاء ورواه عنه أخوه ثم صُيِّر الأمر بعد ذلك حديثاً مرفوعاً ومثل هذا حاصل وواقع كما بينت في مقدمة العلو وأثناء التخريجات هنالك.
قلت: عاش بعد أبيه ست وخمسين سنة ويبعد أنه سمع منه، وإن كان حديثه عنه في الصحيحين، وأورد ابن الجوزي حديثه هذا في دفع شبه التشبيه ص (253) الحديث رقم (44).
ب- وهناك أحاديث تعارضه: قال الحافظ في ((الفتح)) (13/434):
[ويعارضه حديث أبي هريرة: قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال: لَبِنَة من ذهب ولَبِنَة من فضة.... الحديث أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان وله شاهد عن ابن عمر أخرجه الطبراني وسنده حسن، وآخر عن أبي سعيد أخرجه البزار....].
والجمع بينهما متكلَّف لا ينتظم مع علمنا به.
ج- ثمَّ إنَّ هذا الحديث ليس فيه إثبات انهم ينظرون إلى الله تعالى بل فيه أنهم لا ينظرون له! لأنَّ على وجهه رداء الكبرياء!! ورداء الكبرياء لا يليق أن يكشف أو ينـزع عن معبودهم!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!!
ثمَّ هذا تصوير لله تعالى بأنه على صورة مخلوق على وجهه رداء وأنَّه في جنة عدن فقد جاء في نص هذا الحديث (وما بين القوم وبين أن ينظروا إليه إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)!!
ولذلك استشكل أهل العلم هذا الحديث كما في ((فتح الباري)) (13/433) فمن ذلك قول الحافظ هناك:
[قال ـ الخَطَّابي ـ: وقد ورد ذكر الحجاب في عدة أحاديث صحيحة والله سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدار محسوس، ولكن المراد بحجابه منعه أبصار خلقه وبصائرهم...].
قال الحافظ: ((وقال النووي: أصل الحجاب المنع من الرؤية، والحجاب في حقيقة اللغة الستر، وإنما يكون في الأجسام والله سبحانه مُنَـَّزه عن ذلك، فعرف أن المراد المنع من رؤيته....))
وقال الحافظ: ((قال عياض: كانت العرب تستعمل الاستعارة كثيراً.... ومن لم يفهم ذلك تاه، فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له وعلم أن الله منـزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما أن يؤولها....))(5).
وقال الحافظ: ((قال الكَرْمَاني هذا الحديث من المتشابهات، فإما مُفَوِّضٌ وإما مُتَأَوِّل بأنَّ المراد بالوجه الذات، والرداء صفة من صفات الذات اللازمة المنـزهة عما يشبه المخلوقات، ثمَّ استشكل ظاهره بأنه يقتضي أن رؤية الله غير واقعة (6)، وأجاب بأن مفهومة بيان قرب النظر....)).
ثمَّ قال الحافظ: ((وحاصله أن رداء الكبرياء مانع عن الرؤية فكأنَّ في الكلام حذفاً....))
قلت: فالحديث ليس فيه إثبات رؤية الناس لربهم، والله منـزه عن الحلول في جنة عدن، وهذا الحديث غريب الإسناد باطل المتن والله المستعان.
------------------------------------------
الحواشي السفلية:
(1) العجيب الغريب أن المِزِّي لم ينقل هذا التضعيف عن ابن سعد مع أنه قال هناك في ترجمته (33/145): ((ذكره محمد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل الكوفة)) وسكت عمَّا قاله ابن سعد فيه من التضعيف والظاهر أن سبب ذلك أنَّ الرجل كان من رجال الصحيحين. ولقائل أن يقول هذا نوع من التدليس.
(2) أبو غادية الجهني الصحابي قاتل سيدنا عمار بن ياسر هو أحد المبشرين بالنار كما جاء في الحديث الصحيح الآتي في الحاشية التالية، نسأل الله تعالى السلامة، اللهم إنا نؤمن بك ونعوذ بك من النار وسوء الحساب ونسألك الجنة ورضوانك وما قرَّب إليهما من اعتقاد أو قول أو عمل .
(3) قلت: وهذه وحدها كافية في إسقاطه عن مرتبة الثقة والحجية للحديث الصحيح: ((قاتل عمار وسالبه في النار)) رواه أحمد (4/198)، وغيره كالحاكم، وصححه المتناقض الألباني في صحيحته (5/18/2008) كما ثبت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)) رواه البخاري (447) و (2812) وغيره. فما رأيك بمن يْرَحِّب ويكرم قاتل سيدنا عمار رضي الله عنه وهو مبشر شرعاً بالنار، على أنَّ أبا بكر بن أبي موسى هذا كان والياً على الكوفة من قِبَل الحجاج بن يوسف الثقفي عليه لعائن الله تعالى تترى، انظر ((سير أعلام النبلاء)) (5/6)، وانظر في ((تهذيب التهذيب)) تكفير جماعة من علماء السلف وأكابر العلماء للحجاج المجرم قاتل الأنفس المؤمنة ظلماً وعدواناً.
وأزيدك على هذا أيضاً بأنَّ هذه العائلة لها علاقة وطيدة برواة الإسرائيليات كعبد الله بن سلام الإسرائيلي وكعب الأحبار، والاحتمال كبير في أنهم نقلوا هذا الحديث عن هؤلاء، ففي ((سير أعلام النبلاء)) (5/6): ((روى سعيد ابن أبي بردة عن أبيه قال: بعثني أبي أبو موسى إلى عبد الله ابن سلام لأتعلَّم منه)). وانظر علاقة كعب الأحبار بعبد الله بن سلام، ومداومة كعب على قراءة التوراة في الإسلام في ((الموطأ)) حديث رقم (243) وغيره.
(4) أقول: هكذا وقع في ((تهذيب التهذيب)) (12/43) وفي مقدمة ((فتح الباري)) ص (456). لكن وقع في كتاب العلل المطبوع فقرة (1280) قال: ((لم لا يسمع)) والذي أراه أن هذا إما تحريف من بعض النساخ أو سبق قلم ؛ وأصل الكلام: ((لا لم يسمع)) والله أعلم، هذا مع ذهاب بعض العلماء كالبخاري وابن أبي حاتم كما في الجرح والتعديل (9/340) إلى السماع.
والذي يؤكد عدم السماع أن أبا موسى توفي سنة (50) وأبو بكر توفي سنة (106) فبين وفاتيهما (56) سنة والغالب أن من كانت هذه حاله لا يكون له سماع، والله أعلم.
(5) هذه الأحاديث وأمثالها جميعها من الإسرائيليات المتسربة إلى كتب الحديث! ولِهَيْبَة الصحيح وكونه كالقرآن المنـزل عند بعض أهل العلم ذهب إلى تأويلها ولم يحكم ببطلانها! والحكم ببطلانها وردِّها هو الصواب والله تعالى أعلم! وبعض المساكين يظنوننا نرد ما يقوله سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم وهذا تخُّيُّل فاسد! لأننا نرد هذه الأحاديث وننـزه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون قد نطق بهذا الفكر التجسيمي المتهاوي بنفسه! ولكن العقول القاصرة المتعصبة لا تدرك ذلك، وستأتي الأجيال الواعية مستقبلاً بإذن الله تعالى التي ستدرك صواب ما نذهب إليه، والله الموفق والهادي.
(6) هذا اعتراف صريح من بعض العلماء بأن هذا الحديث المردود عندنا دليل على منع الرؤية لا على
ثبوتها، فتدبَّر.
____________(تعليقات مفيدة)____________
الذي أقوله لك الآن أن الحفاظ الذين ترجموا لعبدالله بن عمرو نصوا على أنه كان يروي من الإسرائيليات وأنه كان لديه حمل زاملتين، كالحافظ ابن حجر والذهبي وغيرهما، ودفاع المدافعين عنه وعن غيره من الصحابة ونفي روايتهم للإسرائيليات لا قيمة له، لأنه ثبت أن أبا هريرة أيضاً روى هو وغيره، أما عبدالله بن عمرو فحديث (لما خلق الله الخلق ألقى عليهم من نوره..) واضح في كونه من جملة الإسرائيليات، وكذلك حديث مسلم (2653) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء. لا شك عندي أن هذا من جملة الإسرائيليات التي نقلها.. والكلام يحتاج لبحث. والأستاذ فضل عباس رحمه الله تعالى ليس من النقاد المدققين ولا الحذاق وإنما كان عالما
________________________________