قال الذهبي في كتاب "العلو" بتحقيق العبد الفقير ص (463) مستدلاً بكلام ابن الأعرابي على عدم جواز تفسير الاستواء بالاستيلاء ما نصه:
[كتب إليَّ أبو الغنائم القيسي، أنا الكندي، أنا أبو منصور القزاز، أنا أبو بكر الخطيب، أنا أحمد بن سليمان المقري، أنا أحمد بن محمد بن موسى القرشـي، ثنا أبو بكر بن الأنباري، نا محمد بن أحمد بن النضر ابن بنت معاوية بن عمرو قال: كان أبو عبدالله بن الأعرابي جارنا وكان ليله أحسن ليل، وذكر لنا أنَّ ابن أبي دؤاد سأله: أتعرف في اللغة استوى بمعنى استولى فقال: لا أعرفه].
أقول: بل تعرف العرب ذلك وهو ثابت في أشعارها!! وقد نقل ابن منظور قبل سياق كلام ابن الأعرابي في "لسان العرب" (14/414) عن الجوهري في الصحاح أن استوى تأتي بمعنى استولـى، وكذا قال الراغب في المفردات، وإسناد هذه الرواية الذي ذكرها المصنّف ضعيف!! ويحتمل أن تكون القصة من وضع المجسمة!! وأحمد بن القرشي الذي في هذا الإسناد هو أحمد بن محمد بن موسى بن القاسم بن الصلت، له ترجمة في "تاريخ بغداد" (5/94) و "لسان الميزان" (1/278) وهو ضعيف، وكان مغفلاً يلقنه بعض من ينتسب إلى أهل الحديث من المجرمين الوضاعين بأشياء فيحدّث بها!! وقـول الذهبي في "الميزان": (ضعَّفه البرقاني وقوّاه غيره) موهم وغير صحيح، أما تضعيف البرقاني له فهو صحيح، وأما قوله (وقوّاه غيره) فغير صحيح البتة!! وذلك أنه أخذ من قول حمزة الدقاق:
(كان شيخاً صالحاً ديناً) وهذا ليس بتوثيق لا سيما وقائله حكاه في قصة بيّن فيها أنه عنى أنه كان من الصالحين ولم يكن ثقة لأنه أنكر عليه أن يحدّث بشيء لقنه إياه بعض المحدثين وهو لا يدري ببطلانه!! أي وكان مغفلاً!! فكيف بعد هذا يقال (وقوّاه غيره) ويأخذ هذا الألباني المتناقض بعجره وبجره دون تأمل؟! وهكذا فليكن التمحيص والتحديث!
ثم قال الذهبي هناك:
[وبه قال الخطيب: وأنا الأزهري، أنا محمد بن العباس، أنا نفطويه، نا داود ابن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: يا أبا عبدالله: ما معنى قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} قال: هو على عرشه كما أخبر. فقال الرجل: ليس كذاك، إنما معناه: استولى، فقال: اسكت ما يدريك ما هذا، العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل استولى والله تعالى لا مضاد له، وهو على عرشه كما أخبر. ثمَّ قال: والاستيلاء بعد المغالبة قال النابغة :
ألا لمثلك أو من أنت سابقـه سبق الجواد إذا استولى على الأمـد]. انتهى .
أقول:
إذن العرب تستعمل استوى بمعنى استولى إذا كان فيه مضاد!! فتفسير الاستواء بالاستيلاء معروف عندها بإقرار ابن الأعرابي!! ولكنه لا يريد تفسير هذه الآية بالاستيلاء لأنه كما يزعم يقتضي المغالبة!!
ففي النص الأول يقول بما مفاده: أن العرب لا تعرف هذا أو هذا غير معروف في لغة العرب.
وفي النص الثاني يقول بما يفيد أن العرب تعرف ذلك.
وأقول عن سند هذه القصة: هذا سند غير صحيح!! لأنَّ محمد بن العباس وهو ابن الفرات أبو الحسن محمد بن العباس ابن أحمد بن محمد بن الفرات البغدادي توفي سنة 384 عاش بضعاً وستين سنة. ونفطويه توفي سنة 323 فبين وفاتيهما (61) عاماً!! وهذا يمنع الرواية والاتصال.
وهذه الحكاية أوردها الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/406) على أنَّ الهروي رواها في "ذم الكلام"، وأوردها ابن منظور في "لسان العرب" (14/414)، ورواها اللالكائي (3/399/666) من طريق محمد بن جعفر النحوي إجازة عن نفطويه، والنحوي هذا هو ابن النجار المقرىء وهو معمَّر مسند لم أر من وثقه في الرواية وترجمته في السير (17/100)، كما روى القصة البيهقي في "الأسماء والصفات" ص (415) وهي مضطربة المتن. ونفطويه قال الذهبي عنه كما في "لسان الميزان" (1/108): (قال الدارقطني ليس بقوي، ومرة لا بأس به، وقال الخطيب: كان صدوقاً).
فإن ثبتت فالسائل هو داود بن علي الظاهري وهو أحـد الحفـاظ والأئمـة الورعين الثقات، ولد سنـة (200) أو (202) وكان يقول بأنَّ القرآن مُحْدَث وأنَّ لفظه به مخلوق وهو القول الصواب الذي جاء في الكتاب والسنة ولذا حاربه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وشيعتهم من المحدثين الجامدين كما تجدون ذلك في ترجمته في مثل "سير أعلام النبلاء" (13/97-108) و "لسان الميـزان" (2/517).
فداود الظاهري كان منكراً على ابن الأعرابي هذه الأمور!! ومخالفاً له فيها!! كما يتبين من هذا النص والذي قبله!! لا سيما والاضطراب واقع فيه إذ كان سائل ابن الأعرابي تارة أحمد بن أبي دؤاد وتارة رجلاً وتارة داود الظاهري!!
وكلام ابن الأعرابي مردود سواء ثبت عنه أم لم يثبت!! وادّعاؤه بأنَّ هذا يقتضي المغالبة باطل من القول!! وهو فاسد بدليل آيات كثيرة يقتضي ظاهرها معنى المغالبة مع أنه لا يوجد في الحقيقة من يغالب الله تعالى ومع اقتضاء ظاهرها لذلك ذكرها الله تعالى لنا في كتابه الكريم وأخبرنا بها وبالذي يريد أن يخبرنا به!! فمن ذلك قوله تعالى {والله غالب على أمره} وهذا صريح في معنى المغالبة وقوله تعالى أيضاً {لمن المُلْك اليوم} فنقول لمن يقول بأنه يقتضي معنى المغالبة هل كان الملك قبل ذلك اليوم في هذا الوجود لغيره سبحانه؟! إن قلتم: نعم فقد جحدتم وأنكرتم آيات كثيرة!! وإن قلتم: لا، فقد اتفقتم معنا ومع المعتزلة(!!) والجهمية(!!) من أن قولنا وقولهم لا يقتضي المغالبة في تفسير الاستواء بالاستيلاء!!
والمهم أن كلام ابن الأعرابي هذا إن ثبت عنه فهو مردود عليه وهو من أبطل الباطل!! وأقوال الرجال وآراؤهم لا حجة فيها!! وخاصة إن كانت كما هنا مضادة للأدلة الشرعية واللغوية حقيقة!!
ومن أراد الاستزادة فيما يدعيه المبتدعة وغيرهم من قواعد ونظريات لغوية غير صحيحة فعليه بكتاب تلميذنا العالم المحقق الدكتور نذير عطاونة "القواعد اللغوية المبتدعة".
ويقترف الأزهري أيضاً مثل هذه التفسيرات اللغوية أحياناً المائلة إلى جهة المشبهة ونحوهم، وقد بسطنا هذا في موضع آخر، فاقتضى ذلك التنبيه، وبه يتبين بأن المسألة تحتاج لتتبع وبحث ونظر حتى في أسانيد الأقوال وتحليل ما جاء فيها مع ربط الأمور ببعضها.
والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
____(تعليقات مفيدة)____
قال تلميذنا العلامة عبد الله المالكي الأشعري معلقاً ومفيداً وزائداً:
جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا سَيِّدَنَا وَشَيْخَنَا وَمُعَلِّمَنَا السَّيِّدَ العلَّامَةَ السَّقَاف وَبَارَكَ فِيكُمْ وَحَفِظَكُمْ، وأَقُولُ سَيِّدِي: (ابْنُ الأعرابي) هَذَا، قَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ (231 هـ)؛ وَزَعْمُهُ بِأَنَّ العَرَبَ لَا تَعْرِفُ (الاستواء) بِمَعْنَى (الاسْتِيلَاءِ)؛ يُمْكِنُ دَحْضُهُ بِكَلامِ مَنْ كَانَ مُعَاصِرًا لَهُ، وَكَانَ رَاسِخَ القَدَمِ أَيْضًا فِي فَهْمِ كِتَابِ اللهِ والعَرَبِيَّةِ والنَّحْوِ وَكَلامِ وأَشْعَارِ العَرَبِ، وَهُوَ: (أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَبْدُ اللهِ بْنُ يَحْيَى بنِ المُبَارَكِ بنِ المُغِيْرَةِ العَدَوِيُّ البِصْرِيُّ) المَعْرُوفُ بـ (ابن اليزيدي) المُتَوَفَّى سَنَةَ (237 هـ)، وَأَبُوهُ هُوَ: (يَحْيَى اليَزِيدِيُّ) كَانَ عَلَّامَةً إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إِخْوَتُهُ الخَمْسَةُ الآخَرُونَ، كُلُّهُمْ (أبناء اليزيدي)؛ وَ(ابْنُ اليَزِيدِيِّ، عَبْدُ اللهِ) هَذَا مِنْ أَعْلَمِ تَلَامِيذِ (الفَرَّاءِ)، قَالَ عَنْهُ (ثَعْلَبُ):
[ما رأيت في أصحاب (الفراء) أَعْلَمَ من (عبد الله بن أبي محمد اليزيدي) وهو (أبو عبد الرحمن)، وخاصة في القرآن ومسائله] اهـ.
وَقَالَ عَنْهُ (الخطيب):
[كان أديبًا ((عالمًا، عارفًا بالنحو واللغة))؛ أخذ عن (يحيى بن زياد الفراء) وغيره، وصنف كتابًا في (غريب القرآن)، وكتابًا في النحو مُختصرًا، وكتاب الوقف والابتداء، وكتاب إقامة اللسان على صواب المنطق] اهـ.
فَقَدْ صَرَّحَ هَذَا النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ (ابْنُ اليَزِيدِيِّ - 237 هـ) فِي كِتَابِهِ المَطْبُوعِ (غريب القرآن) (بالاسْتِيلَاءِ) عَلَى أَنَّهُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي (الاسْتِواءِ)، فَقَالَ:
[وَمِنْ سُورَةِ (طه): (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)؛ اسْتَوى: ((اسْتَوْلَى))] اهـ.
-----------------------
ثُمَّ إِنَّ كَلَامَ (ابن الأعرابي) رُدَّ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ (ابْنُ العَرَبِيِّ الحَاتِمِيُّ الطَّائِيُّ) فِي كِتَابِهِ (رَدِّ المُتَشَابِهِ إِلَى المحْكَمِ):
[فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ ((بِالاسْتِيلَاءِ))، وَأَنْكَرَهُ ((ابْنُ الأَعْرَابِيِّ))، قَالَ: «العَرَبُ لَا تَقُولُ ((اسْتَوْلَى)) إِلَّا لِمَنْ لَهُ مُضَادٌّ».
((وَفِـــيــمَــا قَــالَـــهُ نَــظَـــرٌ))؛ لِأَنَّ (الِاسْتِيلَاءَ) مِنَ:
1- (الوَلْيِ)، وَهُوَ: (القُرْبُ)؛
2- أَوْ مِنَ: (الوِلَايَةِ)
وَكِلَاهُمَا لَا يَفْتَقِرُ إِطْلَاقُهُ لِمُضَادٍّ] اهــ.
-----------------------------
وَكَرَّرَهُ (القَسْطَلَانِيُّ) فِي (إِرْشَادِ السَّارِي) :
[مَعْنَى ((الاسْتِيلَاءِ))، وَأَنْكَرَهُ ((ابْنُ الأَعْرَابِيِّ)) وَقَالَ: «العَرَبُ لَا تَقُولُ ((اسْتَوْلَى)) إِلَّا لِمَنْ لَهُ مُضَادٌّ».
((وَفِـــيــمَــا قَــالَـــهُ نَــظَـــرٌ))؛ فَإِنَّ (الِاسْتِيلَاءَ) مِنَ:
1- (الوَلَاءِ)، وَهُوَ: (القُرْبُ)؛
2- أَوْ مِنَ: (الوِلَايَةِ)
وَكِلَاهُمَا لَا يَفْتَقِرُ فِي إِطْلَاقِهِ لِمُضَادٍّ] اهــ.
-----------------------
وَمَعْنَى قَوْلِ (ابْنِ العَرَبِيِّ الطَّائِيِّ): ((وَكِلَاهُمَا لَا يَفْتَقِرُ إِطْلَاقُهُ لِمُضَادٍّ)).
هُوَ: أَنَّ المَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ اشْتُقَّ مِنْهُمَا (الاسْتِيلَاءُ)، وَهُمَا: (الوَلْيُ/الوَلَاءُ)، وَ(الوِلَايَةُ)، كِلَاهُمَا يُطْلَقَانِ فِي لُغَةِ العَرَبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ ((يَـحْـتَـاجَـا)) أَوْ ((يَـفْـتَـقِـرَا)) لِمُضَادٍّ؛ فَيُطْلَقَانِ ((بِلَا مُضَادٍّ))، فَهُمَا لَا يَحْتَاجَانِهِ ولَا يَفْتَقِرَانِ إِلَيْهِ؛ وإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، صَحَّ أَيْضًا أَنْ يُطْلَقَ (الاسْتِيلَاءُ) مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُضَادٌّ، فَهُوَ لَا يَحْتَاجُهُ مِثْلَهُمَا، لأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُمَا.
----------------------
وأَظُنُّ سَيِّدِي أَنَّ الاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرْتمُوهُ فِي قَوْلَكُمْ عَنْ أَثَرِ (نفطويه) عِنْدَمَا قُلْتُمْ: [والمهم أن كلام ابن الأعرابي هذا ((إن ثبت عنه)) فهو مردود عليه]؛ أَظُنُّ أَنَّ احْتِمَالَكُمْ: (ثُبُوتَ الأَثَرِ عَنْهُ) هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَثُبُوتُهُ أَرْجَحُ واللهُ أَعْلَمُ، فَقَدْ وَجَدْتُ (الذَّهَبِيَّ) قَدْ عَزَا هَذَا الأَثَرَ فِي كِتَابِهِ (العَرْشِ) إِلَى كِتَابٍ لِـ (نفطويه) اسْمُهُ: (الرد على الجهمية)، فَقَالَ:
[ النحوي (نفطويه) في كتاب «الرد على الجهمية» ((تَــأْلِــيــفِــهِ)): حدثنا: (داود بن علي) قال: كنا عند (ابن الأعرابي).... إلخ] اهـ.
وَهَذَا الكِتَابُ المُسَمَّى: (الرَّد على الجهمية) قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَنَسَبَهُ لـ (نفطويه)؛ وَلِذَلِكَ أَكَّدَّ (ابْنُ القَيِّمِ) كَلَامَ (الذَّهَبِيِّ) الآنِف الذِّكْرِ، فَقَالَ:
[(..نفطويه) : لَهُ كِتَابٌ في «الرَّد على الجهمية»، أَنْكَرَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ (استوى) بِمَعْنَى (استولى)، وَحَكَى فِيهِ عَنْ (ابن الأعرابي) مَا قَدَّمْنَا حِكَايَتَهُ عَنْهُ] اهـ.
فَهَذَا الأَثَرُ عَنِ (ابن الأعرابي) ثَابِتٌ فِي هَذَا الكِتَابِ «الرَّد على الجهمية»، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مَرْوِيًّا بذَلِكَ السَّنَدِ الَّذِي نَقَلَهُ (الذَّهَبِيُّ) عَنِ (الخَطِيبِ).