بطلان استدلال المجسمة بكلام إمام الحرمين وكشف الافتراء عنه:
قال الذهبي في كتابه " العلو" النص رقم(551):
[ إمـام الحرميـن (418 ـ 478):
551- قال الإمام عالم المشرق أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله الجويني الشافعي في كتاب ((الرسالة النظامية)): [اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجـراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب عزَّ وجلَّ والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة، والدليل القاطع السمعي في ذلك أنَّ إجماع الأمة حجة متبعة، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع، فَلْتُجْرَ آية الاستواء وآية المجيء وقوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}ص:75، على ذلك].
قال الحافظ الحجة عبد القادر الرهاوي: سمعت عبدالرحيم ابن أبي الوفاء الحاجي يقول: سمعت محمد بن طاهر المقدسي يقول: سمعت الأديب أبا الحسن القيرواني بنيسابور يقول: وكان يختلف إلى دروس الأستاذ أبي المعالي الجويني يقرأ عليه الكلام يقول: سمعت الأستاذ أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنّ الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.
وقال الفقيه أبو عبدالله الرستمي الذي أجاز لكريمة: حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الفقيه قال: دخلنا على الإمام أبي المعالي بن الجويني نعوده في مرض موته، فأقعد فقال لنا: اشهدوا عليَّ أني قد رجعتُ عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح، وإني أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور. قلت: هذا معنى قول بعض الأئمة: عليكم بدين العجائز، يعني أنَّهُنَّ مؤمنات بالله على فطرة الإسلام لم يدرين ما علم الكلام.
وقد كان شيخنا العلامة أبوالفتح القشيري رحمه الله يقول:
تجاوزت حدَّ الأكثرين إلى العـلا
وخضتُ بحاراً ليس يدرك قعرهـا
ولججت في الأفكار ثمَّ تراجع اخـ
وسافرت واستفتيتهم في الـمَفـاوز
وسيرت نفسي في قسيم الـمُفـاوز
تيـاري إلى استحسان دين العجائز
قال أبو منصور بن الوليد الحافظ في رسالة له إلى الزنجاني: أنا عبد القادر الحافظ بحرَّان، أنا الحافظ أبوالعلا، أنا أبوجعفر بن أبي علي الحافظ قال: سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال: كان الله ولا عرش، وجَعَلَ يتخبَّط في الكلام، فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما تريد بهذا القول؟ وما تعني بهذه الإشارة فقلت: ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرَّك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فنبئنا نتخلَّص من الفوق والتحت، وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمّه على السرير وصاح بالحيرة وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل ولم يجبني إلا: يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة. فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون سمعناه يقول: حيَّرني الهمذاني.
توفي إمام الحرمين في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وله ستون سنة، وكان من بحور العلم في الأصول والفروع يتوقَّد ذكاءً].
أقول في بيان بطلان هذه النسبة و نقض الافتراء الذي يجعله المجسمة على إمام الحرمين:
إمام الحرمين صاحب منهج واضح في التنزيه والتأويل! وقد ترك إمام الحرمين وتلميذه الإمام الغزالي طريقة الأشعري والباقلاني وخالفاها وأسسا مذهباً يتوافق مع مذهب المعتزلة ومنزهة أهل السنة كابن الجوزي وابن عقيل! حتى قال السبكي وهو يتحدث عن خلق الأفعال: (ولإمام الحرمين والغزالي مذهب.. يدنو كل الدنو من الاعتزال وليس هو هو) كما في طبقاته (3/386)! أما في "الرسالة النظامية" فقد قال إمام الحرمين كلاماً بذكاء بالغ تحقيقاً لمطلب الحاكم آنذاك لعدم إثارة الفتن التي كانت البلاد تموج بها! فقال مقالة دقيقة لم يخالف فيها ما قرره من التنزيه والتأويل، لا بد من تحليلها وبيان المقصود الواضح منها وهذا ما سأبينه في التعليق التالي، والله الموفق! فإمام الحرمين من أكابر الأئمة المنزهين في عصره!! وهو على غير مشرب الذهبي وأهل نحلتـه!! فإيراد الذهبي اسمه ههنا وحشره مع مَنْ ذَكَرَهم من القائلين بالعلو الحسي حسب تخيله مغالطة واضحة وهي تقضي بالعجب العجاب! لا سيما وقد حذف من كلامه ما يبين مقصود إمام الحرمين مما ليس في صالح ما يريده الذهبي ويتمناه!!
وقد حذف الذهبي من هذا النص عبارات تدك استدلاله بكلام هذا الإمام دكاً!! وكلام إمام الحرمين كما في "الرسالة النظامية" ص (23) هو: ((قد اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزم....)) فما تراه بالخط الأسود الواضح حذفه الذهبي!! فتأملوا!! ثمَّ ترك الذهبي كلاماً كثيراً من كلام الإمام لم يذكره وأوهم أنَّ ما نقله من هناك بدون حذف ولا اختصار، وليس كذلك!! فليراجع القُرَّاء كلام إمام الحرمين من كتابه وليقارنه بما نقله الذهبي!! ومختصر الكلام أن إمام الحرمين أتى بعبارة غير واضحة يريد فيها أن يثبت التأويل والتنزيه ويحقق فيها أيضاً غرضاً سياسياً للوزير نظام الملك في عدم التصادم مع الحنابلة أو إحداث فتنة معهم في قصة طويلة! ولنحلل ما قيَّد إمام الحرمين عبارته بالقيد التالي فنقول: قال إمام الحرمين: (قد اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة) يعني أن العلماء مختلفين فيها فهي ليست محل اتفاق فيما بينهم، بل هناك خلاف بينهم فيها! حيث أوَّلها بعضهم وأمرَّها بعضهم وفوَّض معانيها إلى الله تعالى حسب تصوّر إمام الحرمين (و) تلك النصوص التي (امتنع على أهل الحق فحواها) أي لم يستطع بعض أهل الحق فهم معناها أي المقصود من مضمونها، وامتنع كذلك عليهم (إجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان) العربي (منها) لأن ظواهر هذه النصوص تفيد التجسيم والتشبيه! وأهل العلم الذين هم كإمام الحرمين وكثيرٍ من المفسّرين لم يمتنع عليهم فحواها فقد عرفوا معانيها وصنفوا فيها المصنفات! فأما من امتنع عليه فهمها فعليه أن يسير بها على المذهب الذي قيل إن السلف مشوا عليه وهو تفويض معانيها إلى الله تعالى! والتفويض مذهب مردود عند المجسمة والمتمسلفين فلا فائدة إذن من كلام إمام الحرمين لما يفيد مذهبهم! والذي يقطع بما قررناه أن إمام الحرمين في نفس "الرسالة النظامية" قال ص (27) بأن القول بالجهة قول بالتشبيه! ونص كلامه هناك: [والرب تعالى متقدس عن هذه الصفات جمع.. فالصائرون إلى التشبيه وإثبات الجهة يتمسكون بما يفضي إلى التشبيه في الوجود الأزلي..]. فهذه العبارة من إمام الحرمين تثبت أنه ضد عقيدة المجسمة والذهبي في قضية الجهة! وكونه تعالى بذاته على العرش! وما يدعونه من مذهب السلف! فهو ليس معهم قطعاً ولا فائدة لهم من إيراد كلامه والاستقواء به على الأشعرية! وعبارة إمام الحرمين الأولى التي في الكلام على الظواهر في النظامية في آيات الصفات غير منتظمة وهناك مقصود سياسي معيَّن منها فلا يعوَّل عليها! وقول إمام الحرمين بأن مذهب السلف التفويض خطأ وغلط منه إما لأنه لم يطلع على مذهب السلف وإما أنه أراد أن يمشّي الأمور لتحقيق الرغبة السياسية في تلك اللحظة! قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (30/284): [وزارة نظام المُلْك: وتفرَّد بوزارته نظام المُلْك، فأبطل ما كان عمله عميد المُلْك من سبِّ الأشعريّة وانتصر للشّافعيّة. وأكرم إمام الحَرَمَيْن، وأبا القاسم القُشيْريّ]. ومختصر الكلام أن إمام الحرمين عالم منزه ومذهبه واضح في التأويل! منابذ لعقيدة الجهة والتشبيه والتجسيم!
والقصة التي يسوقها الذهبي كذب مبين ولم تثبت!! والقيرواني رجل مجهول!! وقد حكم الإمام السبكي في" الطبقات" (5/186) بكذب هذه الحكاية!! فقال: [قلت أَنا: يشبه أَن تكون هَذِه الْحِكَايَة مكذوبة وَابْن طَاهِر عِنْده تحامل على إِمَام الْحَرَمَيْنِ والقيرواني الْمشَار إِلَيْهِ رجل مَجْهُول ثمَّ هَذَا الإِمَام الْعَظِيم الَّذِي مَلَأت تلامذته الأَرْض لَا ينْقل هَذِه الْحِكَايَة عَنهُ غير رجل مَجْهُول وَلَا تعرف من غير طَرِيق ابْن طَاهِر إِن هَذَا لعجيب وأغلب ظَنِّي أَنَّهَا كذبة افتعلها من لَا يستحي وَمَا الَّذِي بلغ بِهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ علم الْكَلَام أَلَيْسَ قد أعز الله بِهِ الْحق وَأظْهر بِهِ السّنة وأمات بِهِ الْبِدْعَة]. وقد ترجموا لرجل قيرواني اسمه أبو الحسن علي بن عبد الغني الفِهْري القيرواني في "وفيات الأعيان" (3/331) وهو من الشعراء والأدباء وهو ممن انتقل من القيروان إلى الأندلس توفي سنة (488هـ) وما أظنه هذا ولم أر توثيقه لأحد! والراوي عنه محمد بن طاهر القيسراني المقدسي مطعون فيه! قيل إنه ظاهري المذهب والصواب أنه حنبلي صوفي منحل موصوف بأنه (منحرف عن السنة) وحاول محقق كتاب "العلو" البرَّاك أن يستر مذامه ومحقق كتاب العلو هذا مدلس يقترف موبقات في تحقيق الكتاب أهمها أنه يحاول التمويه في رجال تلك النصوص المروية في العلو فلا يذكر ما فيهم من جرح وطعون فيستر حقيقة حالهم ويذكر ما أثني به عليهم ومدحوا به عند أهل نحلتهم وكثير منهم ساقطون! فلا يجوز التعويل على تحقيقاته وتخريجاته الهزيلة ولا الاغترار بها! وحاول الأصبهانيون المجسمة أن يدافعوا عن ابن طاهر المقدسي هذا وأثنى عليه ابن مَنْدَه المجسم الحنبلي والحافظ السِّلَفي! والسِّلَفي عندي غير ثقة لأنه أصبهاني متحنبل العقيدة يثني على من ينصر هذه العقيدة ويوثقهم في كتبه بالباطل ويخفي مذامهم! وحاول الذهبي في "تذكرة الحفاظ" أن يدافع عن ابن طاهر مع أنه اعترف بأنه مطعون فيه فقال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" في ترجمة ابن طاهر المقدسي هذا متعقباً على الذهبي: [وقد ناضل عنه المؤلف في "طبقات الحفاظ" وطوَّل ترجمته..]. والخلاصة إليك أقوال من جرح أبي طاهر المقدسي: قال الذهبي في "الميزان" (3/586): [محمد بن طاهر المقدسي الحافظ: ليس بالقوي فإنه له أوهام كثيرة في تواليفه.
وقال ابن ناصر: كان لحنة وكان يصحف. وقال ابن عساكر: جمع أطراف الكتب الستة فرأيته بخطه وقد أخطأ فيه في مواضع خطأ فاحشاً. قلت: وله انحراف عن السنة إلى تصوف غير مرضي وهو في نفسه صدوق لم يُتَّهَم وله حفظ ورحلة واسعة]. قلت: قد ينص الذهبي على أناس أنهم من جملة الحفاظ وربما يكونون من جملة الكذابين! وهذا موجود وكثير! ومما ورد في جرح ابن طاهر أيضاً ما في "لسان الميزان" (7/211أبو غدة): [قال الدقاق في رسالته: كان ابن طاهر صوفياً ملامتياً له أدنى معرفة بالحديث.. وذكر لي عنه حديث الإباحة أسأل الله أن يعافينا منها وممن يقول بها من صوفية وقْتِنَا. وقال ابن ناصر: محمد بن طاهر لا يحتج به صنف كتاباً في جواز النظر إلى المُرْد وكان يذهب مذهب الإباحة وكان لحنة مُصَحِّفَاً. وقال السمعاني: سألت إسماعيل بن محمد الحافظ عنه فأساء الثناء عليه]. وقد تكلمت عما يتعلق بإمام الحرمين وادِّعاء المجسمة بأنه رجع عن عقيدته في ((صحيح شرح العقيدة الطحاوية)) ص (60) فارجع إليها ضمن موضوع مهم جداً بسطناه هناك!!
و الحكاية الثانية مكذوبة أيضاً كما أوضحنا ذلك في " صحيح شرح الطحاوية" ص (64-65)!! وفي إسنادها من لقبوه بِـ (الإمام أبي الفتح محمد بن علي الفقيه) وهو رجل مجهول لم نقف له على ترجمة وكذلك لم يقف عليه البراك، وسكت متناقض عصرنا الألباني عليه ولم يبين أنه مجهول وأرشد إلى "سلسلته الضعيفة" الحديث (53) وقد بين هناك أن كل ما ورد في قضية (دين العجائز) موضوع مكذوب، لكن سكت ههنا عن قصة إمام الحرمين لينصر هواه وادّعاءات أهل نحلته أصحاب الأكاذيب المُخْتَلَقَة على إمام الحرمين وغيره من العلماء والأئمة!
والرستمي: الراوي عنه عدو للأشاعرة فلا غرابة في أن يروي هذه الحكايات المكذوبة عن مثل إمام الحرمين، وذكر الذهبي في ترجمته في "السير" (20/435) عن أبي موسى المديني أنه قال: ((وكان من الشُّداد في السنة)) أي في التشبيه. ونقل الإمام المحدّث الكوثري عليه الرحمة والرضوان في تعليقه على "ذيول الحفاظ" ص (263) أن هذا الرستمي قال بكل وقاحة :
الأشعرية ضُلال زنادقة
بربهم كفروا جهراً وقولهم
ينفون ما أثبتوا عَوْدَاً لبدئهم
إخوان مَنْ عبد العُزَّى مَعَ اللاتِ
إذا تدبّرتَهُ من أسوى المقِلاتِ
عقائدُ القومِ من أوهى المحالاتِ
ثم قال الإمام الكوثري هناك: [وهذا الرستمي كأنه هو الذي يقول فيه الشاعر:
كُفْرَاً بعلمكِ يا ابن رُسْتُمَ كُلّهُ
لو كنت يُونُسَ في رواية نَحْوه
وَحَوَيتَ فِقْهَ أبي حَنِيفةَ كُلَّهُ
وبما حفظتَ سوى الكتاب المنزلِ
أو كنت قطربَ في الغريب المشكلِ
ثُمَّ انْتَمَيْتَ لِرُسْتَمٍ لم تَنْبُلِ]
فتكون نقول هذا الرستمي عن الأشاعرة غير مقبولة جزماً فتنبه!! فكيف وشيخه الذي يروي عنه الرستمي مجهول!
وقوله في هذه الأبيات (ثمَّ تراجع اختياري إلى استحسان دين العجائز) كلام من أبطل الباطل!! ولا أساس له في الإسلام!! والذي يجب استحسانه هو دين الإسلام الذي بُعِثَ به سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم!! والعجائز ليس لهم دين مخصوص فهناك عجاز المجسمة أو الوهابية وعجائز الأشعرية وعجائز المعتزلة وعجائز الإباضية وعجائز اليهود وعجائز الملاحدة وغير ذلك!! وقد بسطنا الكلام في هذا الموضوع في ((صحيح شرح الطحاوية)) ص (210) فارجع إليه إن شئت!!
والذهبي ــ كما ترى ــ حائر هل ينقل نصوصاً لإمام الحرمين تؤيد ما يريد أم ينقل طعن مَنْ طعن بإمام الحرمين وبين أنه ضالاً متحيراً وبهذا يظهر في الحقيقة تخبط الذهبي في الاستدلال بكلام إمام الحرمين! ومختصر الكلام في هذه القصة أنها كِذْبَة مصطنعة (مفبركة!) اخترعها الحنابلة كل رواتها حنابلة يبغضون الأشاعرة وخاصة إمام الحرمين العلامة السُّنِّيّ المنزِّه! ولو كانت حقيقية – مع أنها كِذْبَة – فهي حادثة صوَّرها المجسمة حسب أهوائهم! فقد رأيناهم يُهزمون ويُغلبون في المناظرات ويدَّعون بأنهم قد غَلَبوا وانتصروا وهم كاذبون! فرجال إسنادها حنابلة، فقد كان سِنُّ الذهبي عند موت شيخه (أبو منصور بن الوليد وهو يحيى بن أبي منصور الحبيشي الحَرَّاني الحنبلي 583-678هـ) عشر سنواتٍ فهو يروي عنه بالإجازة، وقد ذكره ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/295) وقال في ترجمته: [وله مناقب جمة.. منها: التعصب في السنة والمغالات فيها.. وسمع منه.. الشيخ تقي الدين ابن تيمية]. وشيخه (عبد القادر الرهاوي 536-612) قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (4/1388): [عبد القادر بن عبد الله الحافظ الإمام الرحال أبو محمد الرهاوي الحنبلي.. ونشأ بالموصل وكان مملوكاً لبعض المواصلة السفارين فأعتقه فطلب العلم وأقبل على الحديث.. وله أوهام نبهت على مواضع منها في الأربعين له ومع حفظه ومعرفته فغيره أتقن]. وقال شرف الدين الإربلي في "تاريخ إربل" (1/132): [سمع الكثير من الحديث وكتبه وأتقن ما نقله حنبلي المذهب إلا أنه لم يكن غالياً فيه.. كان في أخلاقه بعض الشراسة وعنده شيء من كِبْرٍ وَرَدَ إربل.. ورحل عن الموصل فهو الآن بِحَرَّان.. لقي الإمام أبا العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني السِّلَفي بالاسكندرية.. وبأصبهان من أبي عبد الله الرستمي.. بلغتني وفاته بِحَرَّان في شهر رجب من سنة اثنتي عشرة وستمائة.. وصلى عليه الخطيب أبو عبد الله ابن تيمية]. وشيخ الرهاوي (أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن العطار الهَمْذاَني 488-569هـ) أصبهاني حنبلي والأصبهانيون فيهم ميل إلى التجسيم والتشبيه وكذلك الحافظ السِّلَفي مثله أصبهاني! ترجمته في "المستفاد من ذيل تاريخ بغداد" (1/68-69) لابن النجار. وأما شيخ العطار الهمذاني راوي القصة المكذوبة عن إمام الحرمين فهو (أبو جعفر محمد بن الحسن بن محمد الهَمْذاني ت531هـ) فهو ليس بشيء لأنه ما كان يتقن العربية في أول أمره وليس له كثير معرفة بالحديث إلا أن الحنابلة والذهبي ما رضوا بأن يوصف بذلك وأرادوا أن يفخموا من أمره! قال ابن نقطة الحنبلي (ت629) في "التقييد" (1/33) نقلاً عن السمعاني: [هو شيخ ثقة دَيِّن سافر الكثير إلى البلدان.. وكان له خط رديء.. وهو صحيح السماع غير أنه ما كان له كثير معرفة بالحديث على ما سمعت] (!) والظاهر أن كلام السمعاني لم يعجب الذهبي فوصفه في "سير أعلام النبلاء" (20/101) بقوله: [الشيخ، الإمام، الحافظ، الرحال، الزاهد، بقية السلف والأثبات، أبو جعفر محمد ابن أبي علي الحسن بن محمد بن عبد الله الهَمْذاني، ولد: بعد الأربعين وأربع مائة.. قال السمعاني: كان خطه رديئاً، وما كان له كبير معرفة بالحديث - على ما سمعت]. ولو كان السمعاني قال عنه ثقة لنقل ذلك الذهبي! وهذه الأوصاف التي خلعها الذهبي عليه بالإمامة والحفظ لا محل لها من الإعراب ولا وجود لها في الحقيقة! مع اعترافه بما قاله السمعاني من أنه ليست له تلك المعرفة بالحديث! وقد حذف الذهبي كل ذلك في "العبر" (2/440) فوصفه بِـ (الصدوق) واقتصر على قول السمعاني فيه: [قال ابن السمعانيّ: ما أعرف أنّ في عصره أحداً سمع أكثر منه] (!) وهذا تدليس منه! وهذا يؤكد أنهم أيضاً قد تلاعبوا بقول السمعاني! وبحثت عنه في كتب ابن السمعاني (506-562هـ) فلم أقف عليه! وكنت قد أرْشَدْتُ في الطبعات السابقة بمراجعة ما كتبته في مقدمة شرحي للطحاوية والآن أذكره ههنا لأهميته ولئلا أتعب القارىء بمراجعة كتاب آخر فأقول: لقد قلت في مقدمة "شرحي على الطحاوية" ص (58) من الطبعة الرابعة: [إن صحت هذه الحكاية فمعنى كلام إمام الحرمين (حيرني الهمذاني): أي حيرني هذا الجاهل الذي لا يفهم ولا هو مستعد لأن يفهم!! والقضية بسيطة جداً، إذ لا نعجز نحن عن الإجابة عليها فضلاً عن إمام الحرمين!! فأمّا قول الهَمْذاني المجسم فيها: (ما قال عارف قط: يا ربّاه إلا وقام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة، يقصد الفوقية) فغير صحيح؛ لأن هذا يتضمّن أنه اطّلع على بواطن العارفين وهذا كذب ظاهر!! وإنما قاس هذا الرجل بواطن العارفين على باطنه الذي تشرَّب عقيدة التجسيم الفاسدة!! فهل هذا الرجل {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}مريم:78؟! والأصل في هذا الباطن الذي قام عند هذا الرجل وأمثاله هو قياسهم الخالق المنزه عن الجهات على المخلوق المتصف بالجهة والحيز!! ولذلك فكل من لم يتمكن من فهم العقيدة الإسلامية الصحيحة أو كان حديث عهد بإسلام تخطر له هذه الخواطر في باطنه!! وأحياناً يَرِدُ على قلوب بعض البشر أمور باطلة (يُلْقيها الشيطان في القلب) يجب أن يعتقد الإنسان حين ورودها على قلبه أنها باطلة كما يجب عليه أن يكرهها ويستعيذ بالله تعالى منها، ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة فيما رواه البخاري (3276) ومسلم (134): كما قال البخاري في: (باب صفة إبليس وجنوده) عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: مَنْ خلق كذا؟ مَنْ خلق كذا؟حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولْيَنْتَهِ)). وقال الحافظ ابن حجر هناك في "الفتح" في شرح الباب (6/342) وفي هذا الحديث: (أن الله جعل للشيطان قوّة على التوصل لباطن الإنسان)!! وقال الحافظ أيضاً هناك ص (340): "قوله (مَنْ خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة؛ فينبغي أن يجتهد في دفعها...". قلت: وهذا خطاب وجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة رضي الله عنهم لتحذيرهم من شبه هذه الوسوسات الشيطانية فما بالك بغيرهم؟! فما قاله ذلك الرجل الهَمْذاني لإمام الحرمين - على فرض صحته - مما زعم أنه يوجد في باطنه فهو إلقاء شيطاني بنصِّ هذه الأحاديث وهو مخالف لما هو مقرر في الكتاب والسنة من تنزيه الله تعالى عن الزمان والمكان فافهم هذا ولا تغفل عنه!! وقد ظن المشبهة والمجسمة أنَّ ما يلقيه الشيطان في قلوب الناس من أن الله في جهة العلو (الحسي) وأن جواب بعض الناس من العامة والأطفال عندما يُسْألون أين الله؟ فيقولون: في السماء. أن ذلك هو الشرع الواجب اتّباعه دون آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة والنصوص الشرعية العديدة التي تقرر تنزيه الله تعالى عن الزمان والمكان!! فهل يتصوَّرُ عاقلٌ أن نترك نصوص الكتاب والسنة لما يتخيله الأطفال والعامة البلهاء في ذات الله تعالى؟!! أو مَنْ يدّعي الاطلاع على بواطن العارفين؟! هذا هو منطق المجسمة والمشبهة المضلّلين!!! فليفهم هذا وليحذره أهل العلم والعقلاء!!! ومن الأحاديث الصحيحة التي تؤكّد ما قررناه أيضاً ما جاء في صحيح مسلم (132) عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلّم به. فقال لهم: ((وقد وجدتموه؟!)) قالوا: نعم. قال: ((ذاك صريح الإيمان)). قال النووي في "شرح مسلم" (2/154): (معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاًً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً وانتفت عنه الريبة والشكوك). فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يخطر في قلوبهم بعض الأمور المخالفة للعقيدة إما وسوسة أو خطوراً، وقد شَكَوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما بالك بمن سواهم وخاصة من العامة والرَّعاع الذين لم ينهلوا من مشكاة النبوة؟!! وبذلك ينكسر استدلال أهل التشبيه والتجسيم في هذا الباب وينهدم هدماً تاماً. وقال الإمام الحافظ السبكي في رد هذه الحكاية المكذوبة عن إمام الحرمين في "الطبقات" (5/190) ما نصه: [قلت: لقد تكلّف لهذه الحكاية وأسندها بإجازة على إجازة، مع ما في إسنادها ممن لا يخفى مَحَاطُّهُ على الأشعري، وعدم معرفته بعلم الكلام. ثم أقول: يالله وياللمسلمين!! أيقال عن الإمام إنه يتخبّط عند سؤال سأله إياه هذا المحدّث، وهو أستاذ المناظرين وعَلَمُ المتكلّمين؟! أوَ كان الإمام عاجزاً عن أن يقول له كذبتَ يا ملعون، فإنَّ العارف لا يحدِّث نفسه بفوقية الجسمية، ولا يحدّد ذلك إلا جاهل يعتقد الجهة!! بل نقول: لا يقول عارف: يا رباه، إلا وقد غابت عنه الجهات، ولو كانت جهة فوق مطلوبة لما مُنِعَ المصلّي من النظر إليها، وشُدّدَ عليه في الوعيد عليها. وأما قوله (صاح بالحيرة) وكان يقول: (حيّرني الهمذاني) فكذب ممن لا يستحي، وليت شعري! أَيُّ شُبْهَةٍ أوردها، وأي دليل اعترضه حتى يقول: حيرني الهمذاني. ثم أقول: إن كان الإمام متحيّراً لا يدري ما يعتقده، فواهاً على أئمة المسلمين من سَنَة ثمان وسبعين وأربعمائة إلى اليوم... فيالله ماذا يكون حال الذهبي وأمثاله إذا كان مثل الإمام متحيّراً؟! إن هذا لخزيٌ عظيم. ثمَّ ليت شعري! مَنْ أبو جعفر الهمذاني في أئمة النظر والكلام؟ ومَنْ هو من ذوي التحقيق من علماء المسلمين! ثم أعاد الذهبي الحكاية عن محمد بن طاهر، عن أبي جعفر!! وكلاهما لا يقبل نقله، وزاد فيها أن الإمام صار يقول (يا حبيبي ما ثَمَّ إلا الحيرة) فإنا لله وإنا إليه راجعون، لقد ابتلي المسلمون من هؤلاء الجهلة بمصيبة لا عزاء بها]. هذا مختصركلام السبكي. أقول: ومما هو معروف ومعلوم عند أهل العلم وكذلك المشتغلين بالتحقيق اليوم أن الذهبي كان يتصرّف في عبارات الأئمة عند نقلها وكلام الإمام السبكي هنا أكبر شاهد على ذلك؛ وقد مرَّ معنا أن الذهبي حذف من فقرة نقلها، من "العقيدة النظامية" لإمام الحرمين عبارة لا توافقه!! وقد قال السبكي في "الطبقات" (5/188) إن الذهبي كان: [يسمع خرافات من طلبة الحنابلة فيعتقدها حقاً ويودعها تصانيفه]!! وقد شهد على ذلك أيضاً مُحَقِّقَا الجزء الحادي والعشرين من "سير أعلام النبلاء" ص (68) حيث قالا هناك في الحاشية ما نصه: [تصرّف الذهبي تصرفاً كبيراً بعبارات ابن الأبَّار وهذه عادته رحمه الله...]. فتأمّلوا!!
بطلان استدلال المجسمة بكلام إمام الحرمين وكشف الافتراء عنه:
أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم
-
- Posts: 902
- Joined: Sat Nov 04, 2023 1:45 pm
Return to “أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم”
Jump to
- القرآن الكريم وتفسيره
- ↳ تفسير آية أو آيات كريمة
- ↳ أبحاث في التفسير وعلوم القرآن الكريم
- الحديث النبوي الشريف وعلومه
- ↳ قواعد المصطلح وعلوم الحديث
- ↳ تخريج أحاديث وبيان مدى صحتها
- ↳ شرح الحديث
- ↳ التراجم والرجال: الصحابة والعلماء وغيرهم
- ↳ أحاديث العقائد
- العقائد والتوحيد والإيمان
- ↳ القواعد والأصول العقائدية
- ↳ مسائل وقضايا التوحيد والإيمان
- ↳ أقوال لأئمة وعلماء ومشايخ في العقيدة ومدى صحتها عنهم
- ↳ قضايا ومسائل لغوية تتعلق بالعقائد
- ↳ الفرق والمذاهب وما يتعلق بها
- ↳ عرض عقائد المجسمة والمشبهة والرد عليها
- التاريخ والسيرة والتراجم
- ↳ السيرة النبوية
- ↳ قضايا تاريخية
- ↳ سير أعلام مرتبطة بالتاريخ والأحداث السياسية الغابرة
- ↳ معاوية والأمويون والعباسيون
- الفكر والمنهج والردود
- ↳ توجيهات وتصحيح لأفكار طلبة العلم والمنصفين من المشايخ
- ↳ الردود على المخالفين
- ↳ مناهضة الفكر التكفيري والرد على منهجهم وأفكارهم
- ↳ أسئلة وأجوبة عامة
- الفقه وأصوله
- ↳ القواعد الأصولية الفقهية
- ↳ مسائل فقهية عامة
- ↳ المذهب الحنفي
- ↳ المذهب المالكي
- ↳ المذهب الشافعي
- ↳ المذهب الحنبلي
- علوم اللغة العربية
- ↳ النحو والصرف
- ↳ مسائل لغوية ومعاني كلمات وعبارات
- الكتب الإلكترونية
- ↳ كتب العلامة المحدث الكوثري
- ↳ كتب السادة المحدثين الغماريين
- ↳ كتب السيد المحدث حسن السقاف
- ↳ كتب مجموعة من العلماء
- المرئيات
- ↳ العقيدة والتوحيد: شرح متن العقيدة والتوحيد