بيان بطلان حديث ابن عباس الذي جاء بلفظ:( إنَّ الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً ثمَّ خلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة):
قال الذهبي في كتابه " العلو":
[أنبأنا أحمد بن سلامة، عن هبة الله بن الحسن، أنبأ أبو العز ابن كادش، أنبأ أبو طالب العشاري، ثنا أبن أبي الفوارس الحافظ، أنبأ أبو علي بن الصواف، أنبأ أبو جعفر محمد بن عثمان، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا أبو عامر الأسدي، ثنا سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
إنَّ الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً ثمَّ خلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة].
أقول في بيان بطلان هذا الحديث:
هذا حديث موضـوع، رواه محمد بن عثمان ابن أبي شيبة الوضاع في كتابه "العرش" ص 53 رقم (5) والآجُرِّي في "الشريعة" ص (293) والطبراني في "الكبير" (10/303) وهذا الإسناد الذي ساقه الذهبي هنا تالف، فيه ثلاثة كذابين وهم: ابن كادش والعشاري الحنبليان وقد تقدَّم الكلام عليهما. ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة صاحب كتاب ((العرش)) وهو مجسم كذَّاب محترف! قال الحافظ ابن حجـر في ((لسان الميزان)) (5/317) في ترجمته: ((وأما عبدالله بن أحمد بن حنبل فقال: كذَّاب، وقال ابن خِرَاش: كان يضع الحديث)). قلت: وكذَّبه أيضاً جعفر الطيالسي، وعبدالله بن إبراهيم بن قتيبة، وجعفر ابن هذيل، ومحمد بن أحمد.
- وفي السند أيضاً (أبو عامر الأسدي) وقد اختلفوا من هو (أبو عامر) هذا! فذكر محمد بن عثمـان ابـن أبي شيبـة في كتابه "العرش" في الحديث (34) في إسنادٍ هناك أنه (مهاجر بن كثير) حيث قال: [حدثنا أبو يعقوب الكاهلي، نا مهاجر بن كثير الأسدي أبو عامر، نا الحكم بن مصقلة..].
قلت: و(مهاجر بن كثير) هذا متروك الحديـث كما في ((لسان الميـزان)) (6/104) حيث قال الحافظ ابن حجر هناك نقلاً عن الذهبي وزاد عليه: [مهاجر بن كثير عن الحكم بن مصقلة قال أبو حاتم: متروك الحديث انتهى. وكذا قال الأزدي].
- وهناك رجل ضعيف آخر في السند وهو: (إبراهيم بن مهاجر) وهو ضعيف. قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (1/146) في ترجمته: [إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي أبو إسحاق الكوفي.. قال ابن المَدِيني: له نحو أربعين حديثاً. وقال الثوري وأحمد بن حنبل: لا بأس به. وقال يحيى القطان: لم يكن بقوي.. وقال عباس عن يحيى: ضعيف.. وقال النسائي في الكنى: ليس بالقوي في الحديث.. وقال ابن عَدِي: هو عندي أصلح من إبراهيم الهجري وحديثه يُكتب في الضعفاء.. وقال ابن سعد: ثقة. وقال ابن حِبَّان: في الضعفاء هو كثير الخطأ. وقال الحاكم: قلت للدارقطني: فإبراهيم بن مهاجر؟ قال: ضعفوه، تَكَلَّم فيه يحيى بن سعيد وغيره، قلت: بحجة؟ (أي: هل تكلَّم فيه يحيى بن سعيد بحجة ودليل؟) قال: بلى حدَّث بأحاديث لا يتابع عليها وقد غمزه شعبة أيضاً.. وقال يعقوب ابن سفيان: له شرف وفي حديثه لين.. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي هو وحصين وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض ومحلهم عندنا محل الصدق يكتب حديثهم ولا يحتج به. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟ قال: كانوا قوماً لا يحفظون فيحدّثون بما لا يحفظون فيغلطون ترى في أحاديثهم اضطراباً ما شئت].
وروى ابن جرير الطبري في التفسير (14/29/17) عن ابن بشار قال ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد قال: قلت لابن عباس: إنَّ ناساً يكذبون بالقدر، فقال: إنهم يكذّبون بكتاب الله، لآخذنَّ بشعر أحدهم فلا يقصَّنَّ به، إنَّ الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً فكان أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه. وهذا رواه أيضاً الفريابي في "القدر" (برقم66).
وعند عبد الله بن أحمد في سنته (2/421) واللالكائي في "اعتقاد السنة" (4/644/1163) وابن بطة في إبانته (2/157) وغيرهم: [هشيم قال أخبرنا أبو هاشم عن مجاهد عن ابن عباس قال: ذكر عنده القدرية فقال لو رأيتُ أحداً منهم لعضضت أنفه].
ورواية الآجُرِّي في "الشريعة" (2/873/454) من طريق: [شُعْبَةُ قَالَ: نا أَبُو هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَوْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمُ لَأَخَذْتُ بِشَعَرِهِ يَعْنِي الْقَدَرِيَّةَ قَالَ شُعْبَةُ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا بِشْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِداً يَقُولُ وَاحْتَفَزَ: ذَكَرُوا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَحَفَّزَ وَقَالَ: لَوْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمْ لَعَضَضْتُ أَنْفَهُ"]. وأنت ترى أن رواية هشيم وشعبة خلو من لفظ العرش! فليس فيها جملة (إنَّ الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً). وعلة هذا الأثر أيضاً هو: أبو هاشم ، وقد بيَّن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/405): أن أبا هاشم هو الرُّماني واسمه يحيى بن دينار، قال فيه ابن حِبَّان في "الثقات" (7/596) في ترجمة الرُّماني: [وكان يخطىء، يجب أن يعتبر حديثه إذا كان من رواية الثقات عنه، فأما رواية الضعفاء عنه مثل عمرو بن خالد الواسطي ودونه فإن الوهن يلزق بهم دونه، لأنه صدوق لم يكن له سبب يوهن به غير الخطأ والخطأ متى لم يفحش لا يستحق من وجد فيه ذلك الترك]. وقد حكم متناقض عصرنا على هذا الأثر في "ضعيفته" (12/679/6309) من رواية ابن جرير وغيره والذي فيه ذكر العرش بأنه: (منكر جداً) وأنه (باطل) فإنه قال هناك:
[(تنبيه): وأما الرواية التي أخرجها الطبري في "كتابيه" من طريق سفيان عن أبي هاشم عن مجاهد عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ موقوفاً بلفظ: "إن الله تعالى ذِكْرُهُ كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً فكان أول ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة...". الحديث. فهو منكر جداً عندي لقوله: "قبل أن يخلق شيئاً" ... فإنه يشعر أن العرش غير مخلوق! وهذا باطل، وقد رواه شعبة عن أبي هاشم فلم يذكر فيه هذا الباطل. ولعله من قِبَلِ أبي هاشم الرُّماني، فإنه وإن كان ثقة بالاتفاق، فقد غمزه ابن حِبَّان،.. وإن مما يبطل ذاك القول ونسبته إلى ابن عباس : أنه نفسه ممن روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يؤكِّد بطلانه لما تقدَّم بلفظ: "إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ...". ولذلك قال الطبري رحمه الله: "وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي رويناه أولى بالصواب، لأنه كان أعلم قائل بذلك قولاً بحقيقته وصحته، ومن غير استثناء منه شيئاً من الأشياء أنه تقدم خلقُ الله إياه خلقَ القلم، بل عمَّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أول شيء خلق الله القلم"..، أن القلم مخلوق قبله من غير استثناء من ذلك عرشاً ولا ماءً، ولا شيئاً غير ذلك، فالرواية التي رويناها عن أبي ظبيان وأبي الضحى عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ أولى بالصحة عن ابن عباس من خبر مجاهد عنه الذي رواه عنه أبو هاشم، إذا كان أبو هاشم قد اختلف في رواية ذلك عنه شعبة وسفيان على ما ذكرت من اختلافها فيها". وإني لأحمد الله تعالى أن هذا الكلام من هذا الإمام موافق تماماً لما كنت ذكرته في فوائد حديث ابن عباس هذا في المصدر المذكور آنفاً "الصحيحة"، أن فيه رداً على من يقول بأن العرش هو أول مخلوق، ولم أكن يومئذ قد وقفت عليه. فالحمد لله على توفيقه، وأسأله المزيد من فضله].
ورواه البيهقي في "القضاء والقدر" (برقم489) بسنده عن يعلى بن عبيد كما في الحديث الذي قبله: [قَالَ: ونا سُفْيَانُ , عَنْ أَبِي هَاشِمٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أُنَاساً يَقُولُونَ فِي الْقَدَرِ قَالَ: يُكَذِّبُونَ بِالْكِتَابِ لَئِنْ أَخَذْتُ بِشَعْرِ أَحَدِهِمْ لَأَنْصُوَنَّهُ (أي: لآخذنَّ بناصيته وأمنعنَّه) إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا, ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , فَإِنَّمَا يَجْرِي النَّاسُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ]. قلت: يعلى بن عبيد عن سفيان ضعيف. قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (11/353) في ترجمة يعلى: [وقال عثمان الدارمي عن ابن مَعِين: ضعيف في سفيان ثقة في غيره]. وهو في سند اللالكائي (3/396و4/669).
وفي إسناد الدارمي في "الرد على الجهمية" (برقم44): (محمد بن كثير المصيصي) قال عنه أحمد: ليس بشيء يحدّث بأحاديث مناكير ليس لها أصل. وقال البخاري: ليِّنٌ جداً. ووثقه بعضهم. انظر ترجمته في ((تهذيب الكمال)) (26/331). وعند الآجُرِّي في "الشريعة" (2/873/444) من طريق وكيع بن الجراح عن سفيان الثوري..
أقـول: هذه الجملة التي يمكن للمجسمة أن يتمسكوا بها شاذة مردودة من وجهين:
الأول: أنها مخالفة للقرآن الكريم!! فالله تعالى يقول: {إنَّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثمَّ استوى على العرش} يونس: 3. فذكر سبحانه أنَّ الخلق كان أولاً ثم الاستواء على العرش، وهذا الأثر يقول: إن الله كان على العرش قبل أن يخلق شيئاً!! وهذا مما يفيدنا أن هذه الجملة من الإسرائيليات!!
الثاني: أن بقية الرواة رووا هذا الأثر عن ابن عباس دون هذه الجملة التي هي: (إنَّ الله كان على العرش قبل أن يخلق شيئاً)!! فرواه شعبة عن أبي هاشم عند ابن جرير عقب الرواية الأولى بدونها، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس كذلك بدونها كما عند ابن جرير (29/16) وأبي يعلى في مسنده (4/217)!! وبه يثبت أنها باطلة!!
وعلى كل الأحوال هو أثر موقوف، وصغار الصحابة رضي الله عنهم كابن عباس وجابر وأنس وأبي هريرة وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عمـر وأبو سعيد وأمثالهم كانوا يروون عن كعب ووهب بن مُنَبِّه وعبدالله بن سلام وينقلون من كتب أهل الكتاب وخاصة عبدالله بن عمرو كان عنده من كتب أهل الكتاب، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى من التعاليق ونكتفي هنا أن نُذَكِّرَ بقول الذهبي نفسه في ((سير أعلام النبـلاء)) (3/489) حيث ذكر أنَّ كعباً جالس أصحاب (سيدنا) محمد فكان يُحَدِّثهم عن الكتب الإسرائيلية.
بيان بطلان حديث ابن عباس الذي جاء بلفظ:( إنَّ الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً ثمَّ خلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم
-
- مشاركات: 777
- اشترك في: السبت نوفمبر 04, 2023 1:45 pm