بيان درجة حديث: (يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه..) والكشف عن المراد منه:
وقد جاء عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك. فأين ملوك الأرض))
أقول:
رواه البخاري (4812و6519)، ومسلم (2787) من حديث أبي هريرة. وقد رواه مسلم (2788) من حديث ابن عمر ولفظه: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: يَأْخُذُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا اللَّهُ وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أَنَا الْمَلِكُ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وفي متن حديث ابن عمر نكارة شديدة في قوله: (فَيَقُولُ أَنَا اللَّهُ وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أَنَا الْمَلِكُ). -ومع أن النووي رحمه الله تعالى أول الأصابع بأنها أصابع النبي وليست أصابع الله تعالى- ومع ذلك فهذا عندنا من جملة المردودات، لا سيما وله لفظ آخر في نفس الموضع عند مسلم وهو: (يَطْوِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ). فهاتان الرويتان اللتان عند مسلم مردودتان عندنا، ولمخالفتهما أيضاً لرواية مسلم (1827) نفسه (وكلتا يديه يمين)، أما رواية أبي هريرة فموافقة في الظاهر لقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الزمر:67، لكن في الحقيقة لفظ الآية يقول: (الأرض قبضته .. والسموات مطويات بيمينه) والحديث يقول (يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ). فلفظ (الأرض قبضته) ليس مثل (يقبض الأرض)! لأنه مذ خلق الله السموات والأرض هن كذلك مطويات بيمينه وفي قبضته! بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا..} والطير أيضاً ممسوكات قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ}. قال الفخر الرازي في هذا الكتاب ص (323): [يجب الاحتراز عن التصريف، فإذا ورد قوله: {استوى} فلا ينبغي أن نقول إنه تعالى (مستوٍ) لما ثبت في علم البيان أن اسم الفاعل يدل على كون المشتق منه متمكناً وثابتاً ومستقراً. أما الفعل فدلالته على هذا المعنى ضعيفة... فثبت بما ذكرنا أن الطريق في هذه المتشابهات الجمود على تلك الألفاظ وعدم التصرف فيها بوجه من الوجوه]. وهذا الكلام من الفخر غاية في الدقة. وبهذه القواعد نحكم على هذا الحديث الذي اضطربت ألفاظه بأنه من جنس الشاذ المردود! ومعنى قوله تعالى: {يوم نطوي السماء} وفي قراءة أبي جعفر المدني وغيره: {يوم تُطْوَى السماء} والطَّي هنا عبارة عن الإعادة لأن الآية التي بعدها تفسرها وهي قوله تعالى:{كما بدأنا أول خلق نعيده}. فهذه التعبيرات المتنوعة والتعدد في القراءات توضح أن الأمور تحدث بأمره سبحانه لا بمزاولة أعضاء وجوارح ولا باستعمال أدوات كما تتخيل المجسمة من ظواهر الألفاظ، وإنما كما قال سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} البقرة:117، وقال: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} آل عمران:47. وهنا تنبيه مهم أن كل هذا الطي والقبض للسموات والأرض يكون فيه أهل الإيمان المتقين آمنين، وقد سبق آيات الطي والقبض هذه قوله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} الأنبياء:103. قال القرطبي (11/347): [وانتصاب يوم.. أو بقوله: {لا يحزنهم} أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوى فيه السماء].
ثم نقول أيضاً: لقد اسْتُعْمِلَ القبض واليمين في عدَّة أمور في الكتاب والسنة وعند علماء المسلمين بما لا يدل على إثبات جارحة ولا كون المقبوض وما في اليمين كائناً في كف القابض!! ومن ذلك قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}المؤمنون: 6، أي الرقيـق والجواري وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}الحاقة:44- 45. وقـال الإمام الرازي: [والفقهاء يقولون في الشروط: وقبض فلان كذا، وصار في قبضته، ولا يريدون إلا خلوص ملكه]. وقال تعالى في كتابه عن الظل: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا}الفرقان: 46، ومعناه: أذهبناه وأفنيناه، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} البقرة: 245، وقال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}البقرة: 283. قال الإمام القرطبي في التفسير (15/278): [واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك..]. والله تعالى ممسكٌ للسموات والأرض الآن وقبل يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}فاطر: 41، وقال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} الحج: 65. ولا يعني ذلك أنَّ له كفاً قد وضع فيها السماوات والأرض!! وإمساكه هو تدبيره وقيومته على خلقه!! وهذا مثل قوله تعالى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}الزمر: 42. ومثل قوله تعالى: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}فاطر: 2. فتأمَّل في هذا الإمساك جيداً واعلم بأنَّه ليس إمساكاً بكفٍ كما تتخيَّل المجسمة وتتوهم!!
بيان درجة حديث: (يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه..) والكشف عن المراد منه:
-
- Posts: 902
- Joined: Sat Nov 04, 2023 1:45 pm